الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى .
فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنّن الأغراض لتجديد نشاط الأذهان . ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله : { فأخْرَجْنَا بهِ أزواجاً }. فقوله { الذي جَعَلَ لكمُ الأرضَ مِهَاداً } خبر لمبتدأ محذوف ، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهاداً ، والضمير عائد إلى الربّ المفهوم من { ربي } [ طه : 52 ] ، أي هو ربّ موسى .
وتعريف جزأي الجملة يُفيد الحصر ، أي الجاعل الأرض مهاداً فكيف تعبدون غيره . وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنّه تذكير بالنّعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقاً بالإلهية .
وقرأ الجمهور { مِهاداً بكسر الميم وألففٍ بعد الهاء وهو اسم بمعنى الممهُود مثل الفراش واللّباس . ويجوز أن يكون جمع مَهْد ، وهو اسم لما يمهد للصّبيّ ، أي يوضع عليه ويحمل فيه ، فيكون بوزن كِعاب جمعاً لكَعب . ومعنى الجمع على اعتبار كثرة البقاع .
وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف مَهْداً بفتح الميم وسكون الهاء ، أي كالمهد الذي يمهد للصبي ، وهو اسم بمصدر مَهدَه ، على أنّ المصدر بمعنى المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق ، ثمّ شاع ذلك فصار اسماً لما يمهد .
ومعنى القراءتين واحد ، أي جعل الأرض ممهودة مسهلة للسّير والجلوس والاضطجاع بحيث لا نُتوء فيها إلاّ نادراً يمكن تجنبه ، كقوله : { والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سُبلاً فجاجاً } [ نوح : 19 ، 20 ].
{ وسَلَكَ } فعل مشتق من السُلوك والسّلْك الذي هو الدخول مجتازاً وقاطعاً . يقال : سلك طريقاً ، أي دخله مجتازاً . ويستعمل مجازاً في السّير في الطريق تشبيهاً للسائر بالشيء الداخل في شيء آخر . يقال : سلك طريقاً . فحق هذا الفعل أن يتعدّى إلى مفعول واحد وهو المدخول فيه ، ويستعمل متعدياً بمعنى أسلك . وحقه أن يكون تعديه بهمزة التعدية فيقال : أسلك المسمار في اللّوح ، أي جعله سالكاً إياه ، إلاّ أنّه كثر في الكلام تجريده من الهمزة كقوله تعالى : { نسلكه عذاباً صعداً } [ الجنّ : 17 ]. وكثر كون الاسم الذي كان مفعولاً ثانياً يصير مجروراً ب ( في ) كقوله تعالى : { ما سَلَكَكُم في سَقَر } [ المدثر : 42 ] بمعنى أسلككم سقر . وقوله : { كذلك سلَكْنَاه في قلوب المجرمين } في سورة الشعراء ( 200 ) ، وقوله { ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماء فسَلَكه ينابيع في الأرض } في سورة الزمر ( 21 ). وقال الأعشى :
كما سلك السّكيّ في الباب فيْتَق ... أي أدخل المسمارَ في الباب نجارٌ ، فصار فعل سلك يستعمل قاصراً ومتعدياً .
فأما قوله هنا وسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } فهو سَلك المتعدي ، أي أسلك فيها سبلاً ، أي جعل سبلاً سالكة في الأرض ، أي داخلة فيها ، أي متخللة . وذلك كناية عن كثرتها في جهات الأرض .
والمراد بالسبل : كلّ سبيل يمكن السير فيه سواء كان من أصل خلقة الأرض كالسهول والرمال ، أو كان من أثر فعل النّاس مثل الثنايا التي تكرر السير فيها فتعبدت وصارت طرقاً يتابعُ الناس السير فيها .
ولما ذَكَر منّة خلق الأرض شفعها بمنّة إخراج النّبات منها بما ينزل عليها من السماء من ماء . وتلك منّة تنبىء عن خلق السماوات حيث أجرى ذكرها لقصد ذلك التذكير ، ولذا لم يقل : وصببنا الماء على الأرض ، كما في آية : { أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقّاً } [ عبس : 25 ، 26 ]. وهذا إدماج بليغ .
والعدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلّم في قوله : { فأخرجنا } التفات . وحسّنه هنا أنّه بعد أن حَجّ المشركين بحجّة انفراده بخلق الأرض وتسخير السماء مما لا سبيل بهم إلى نكرانه ارتقى إلى صيغة المتكلّم المطاع فإن الذي خلق الأرض وسخّر السماء حقيق بأن تطيعه القوى والعناصر ، فهو يُخرج النّبات من الأرض بسبب ماء السماء ، فكان تسخير النبات أثراً لتسخير أصل تكوينه من ماء السماء وتراب الأرض .
ولملاحظة هذه النكتة تكرر في القرآن مثل هذا الالتفات عند ذكر الإنبات كما في قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } [ الأنعام : 99 ] ، وقوله : { ألم ترَ أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمراتتٍ مختلفاً ألوانُها } [ فاطر : 35 ] ، وقوله : { أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائقَ ذاتَ بهجة } [ النمل : 60 ] ومنها قوله في سورة الزخرف ( 11 ) : { والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً } وقد نبّه إلى ذلك في الكشاف } ، ولله درّه . ونظائره كثيرة في القرآن . والأزواج : جمع زوج . وحقيقة الزوج أنه اسم لكلّ فرد من اثنين من صنف واحد . فكلّ أحد منهما هو زوج باعتبار الآخر ، لأنه يصير بسبق الفرد الأول إياه زوجاً . ثم غلب على الذكر والأنثى المقترنين من نوع الإنسان أو من الحيوان ، قال تعالى : { فاسلك فيها من كلّ زوجين اثنين } [ المؤمنون : 27 ] ، وقال : { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] وقال : { اسكن أنتَ وزوجُك الجنّة } [ البقرة : 35 ]. ولمّا شاعت فيه ملاحظة معنى اتّحاد النّوع تطرقوا من ذلك إلى استعمال لفظ الزوج في معنى النوع بغير قيد كونه ثانياً لآخر ، على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ، قال تعالى : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تُنْبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون } [ يس : 36 ] ، ومنه قوله : { فأنبتنا فيها من كلّ زَوج كريم } [ لقمان : 10 ]. وفي الحديث : « من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرتهُ حجبة الجنّة . . . » الحديثَ ، أي من أنفق نوعين مثل الطعام والكسوة ، ومثل الخَيل والرواحل . وهذا الإطلاق هو المراد هنا ، أي فأنبتنا به أنواعاً من نبات . وتقدّم في سورة الرعد .
والنّبات : مصدر سمي به النبات ، فلكونه مصدراً في الأصل استوى فيه الواحد والجمع .
وشتّى : جمع شتيت بوزن فَعلى ، مثل : مريض ومَرضى .
والشّتيت : المشتّت ، أي المبعّد . وأريد به هنا التباعد في الصفات من الشكل واللّون والطعم ، وبعضها صالح للإنسان وبعضها للحيوان .