قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين فيه مسألتان :
الأولى : قوله - تعالى - : للمتوسمين روى الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( للمتفرسين ) وهو قول مجاهد . وروى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله - ثم قرأ - إن في ذلك لآيات للمتوسمين . قال : هذا حديث غريب . وقال مقاتل وابن زيد : للمتوسمين للمتفكرين . الضحاك : للنظارين . قال الشاعر :
أوكلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلى عريفهم يتوسم
وقال قتادة : للمعتبرين . قال زهير :
وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم
وقال أبو عبيدة : للمتبصرين ، والمعنى متقارب . وروى الترمذي الحكيم من حديث ثابت عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن لله - عز وجل - عبادا يعرفون الناس بالتوسم . قال العلماء : التوسم تفعل من الوسم ، وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها . يقال : توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسم ذلك فيه ; ومنه قول عبد الله بن رواحة للنبي - صلى الله عليه وسلم - :
إني توسمت فيك الخير أعرفه الله يعلم أني ثابت البصر
آخر :
توسمته لما رأيت مهابة عليه وقلت المرء من آل هاشم
واتسم الرجل إذا جعل لنفسة علامة يعرف بها . وتوسم الرجل طلب كلأ النسمي . وأنشد :
وأصبحن كالدوم النواعم غدوة على وجهة من ظاعن متوسم
وقال ثعلب : الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك . وأصل التوسم التثبت والتفكر ; مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره ، وذلك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر . زاد غيره : وتفريغ القلب من حشو الدنيا ، وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا . روى نهشل عن ابن عباس للمتوسمين قال : لأهل الصلاح والخير . وزعمت الصوفية أنها كرامة . وقيل : بل هي استدلال بالعلامات ، ومن العلامات ما يبدو ظاهرا لكل أحد وبأول نظرة ، ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر . قال الحسن : المتوسمون هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار ; فهذا من الدلائل الظاهرة . ومثله قول ابن عباس ، : ( ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه ) . وروي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما : أراه نجارا ، وقال الآخر : بل حدادا ، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأل فقال : كنت نجارا وأنا اليوم حداد . وروي عن جندب بن عبد الله البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال : من سمع سمع الله به ، ومن راءى راءى الله به . فقلنا له : كأنك عرضت بهذا الرجل ، فقال : إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا ; فكان رأس الحرورية ، واسمه مرداس . وروي عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال : هذا سيد فتيان البصرة إن لم يحدث ، فكان من أمره من القدر ما كان ، حتى هجره عامة إخوانه . وقال لأيوب : هذا سيد فتيان أهل البصرة ، ولم يستثن . وروي عن الشعبي أنه قال لداود الأزدي وهو يماريه : إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك ، وكان كذلك . وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دخل عليه قوم من مذحج فيهم الأشتر ، فصعد فيه النظر وصوبه وقال : أيهم هذا ؟ قالوا : مالك بن الحارث . فقال : ما له قاتله الله ! إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا ; فكان منه في الفتنة ما كان . وروي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : أن أنس بن مالك دخل عليه ، وكان قد مر بالسوق فنظر إلى امرأة ، فلما نظر إليه قال عثمان : ( يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر الزنا ! فقال له أنس : أوحيا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال لا ولكن برهان وفراسة وصدق ) . ومثله كثير عن الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين - .
الثانية : قال أبو بكر بن العربي : " إذا ثبت أن التوسم والتفرس من مدارك المعاني فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس . وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام ، جريا على طريق إياس بن معاوية أيام كان قاضيا ، وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر الشاشي صنف جزءا في الرد عليه ، كتبه لي بخطه وأعطانيه ، وذلك صحيح ; فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها