تفسير القرطبي - Al-Qortoby   سورة  الحج الأية 25


سورة Sura   الحج   Al-Hajj
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
الصفحة Page 335
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)

قوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم

فيه سبع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد الحرام عام الحديبية ، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع ؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس ، فقد وقع ذلك في صدر المبعث . والصد : المنع ؛ أي وهم يصدون . وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي . وقيل : الواو زائدة ( ويصدون ) خبر ( إن ) . وهذا مفسد للمعنى المقصود ، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله ( والباد ) تقديره : خسروا إذا هلكوا . وجاء ( ويصدون ) مستقبلا إذ هو فعل يديمونه ؛ كما جاء قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ؛ فكأنه قال : إن الذين كفروا من شأنهم الصد . ولو قال إن الذين كفروا وصدوا لجاز . قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق ، قال : وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر نذقه من عذاب أليم . قال أبو جعفر : وهذا غلط ، ولست أعرف ما الوجه فيه ؛ لأنه جاء بخبر ( إن ) جزما ، وأيضا فإنه جواب الشرط ، ولو كان خبر ( إن ) لبقي الشرط بلا جواب ، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب .

الثانية : والمسجد الحرام قيل : إنه المسجد نفسه ، وهو ظاهر القرآن ؛ لأنه لم يذكر غيره . وقيل : الحرم كله ؛ لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه عام الحديبية ، فنزل خارجا عنه ؛ قال الله تعالى : وصدوكم عن المسجد الحرام ، وقال : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام . وهذا صحيح ، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك .

الثالثة : قوله تعالى : الذي جعلناه للناس أي للصلاة والطواف والعبادة ؛ وهو كقوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس . سواء العاكف فيه والبادي العاكف : المقيم الملازم . والبادي : أهل البادية ومن يقدم عليهم . يقول : سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد ؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه . وقيل : إن المساواة إنما هي في دوره ، ومنازله ، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها . وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله ؛ وهذا قول مجاهد ، ومالك ؛ رواه عنه ابن القاسم . وروي عن عمر ، وابن عباس ، وجماعة : إلا أن القادم له النزول حيث وجد ، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى . وقال ذلك سفيان الثوري ، وغيره ، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول ، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة ؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله ؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة ، فتركه فاتخذ الناس الأبواب . وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة ، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء ، وكانت الفساطيط تضرب في الدور . وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد ؛ وهذا هو العمل اليوم . وقال بهذا جمهور من الأمة .

وهذا الخلاف يبنى على أصلين : أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس . وللخلاف سببان : أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة ، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم ؛ كما فعل عمر - رضي الله عنه - بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لا تباع ولا تكرى ، ومن سبق إلى موضع كان أولى به . وبهذا قال مالك ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي . أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم ، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاءوا . وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا ، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام ، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة ( المائدة ) . وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمة ، . وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول : لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة .

قلت : الصحيح ما قاله مالك ؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة . قال أبو عبيد : ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد . وروى الدارقطني ، عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - وما تدعى رباع مكة إلا السوائب ؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن . وزاد في رواية : وعثمان . وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال : كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - السوائب ، لا تباع ؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن . وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال : من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا . قال الدارقطني : كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ، ووهم فيه ، ووهم أيضا في قوله : عبيد الله بن أبي يزيد ، وإنما هو ابن أبي زياد القداح ، والصحيح أنه موقوف ، وأسند الدارقطني أيضا عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها . وروى أبو داود ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله ؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس ؟ فقال : لا ، إنما هو مناخ من سبق إليه . وتمسك الشافعي - رضي الله عنه - بقوله تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم فأضافها إليهم . وقال : عليه السلام - يوم الفتح : من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .

الرابعة : قرأ جمهور الناس ( سواء ) بالرفع ، وهو على الابتداء ، و ( العاكف ) خبره . وقيل : الخبر ( سواء ) وهو مقدم ؛ أي العاكف فيه والبادي سواء ؛ وهو قول أبي علي ، والمعنى : الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء . وقرأ حفص ، عن عاصم سواء بالنصب ، وهي قراءة الأعمش . وذلك يحتمل أيضا وجهين : أحدهما : أن يكون مفعولا ثانيا لجعل ، ويرتفع ( العاكف ) به لأنه مصدر ، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو . والوجه الثاني : أن يكون حالا من الضمير في جعلناه . وقرأت فرقة ( سواء ) بالنصب ( العاكف ) بالخفض ، و ( البادي ) عطفا على الناس ، التقدير : الذي جعلناه للناس العاكف والبادي . وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء ، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء . وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف . وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام ، واختلفوا في مكة ؛ وقد ذكرناه .

الخامسة : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم شرط ، وجوابه نذقه من عذاب أليم . والإلحاد في اللغة : الميل ؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد . واختلف في الظلم ؛ فروىعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ومن يرد فيه بإلحاد بظلم قال : الشرك . وقال عطاء : الشرك والقتل . وقيل : معناه صيد حمامه ، وقطع شجره ؛ ودخول غير محرم . وقال ابن عمر : كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان : لا والله ! وبلى والله ! وكلا والله ! ولذلك كان له فسطاطان ، أحدهما في الحل والآخر في الحرم ؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم ، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل صيانة للحرم عن قولهم : كلا والله ، وبلى والله ، حين عظم الله الذنب فيه . وكذلك كان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم ، فقيل له في ذلك فقال : إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول : كلا والله ، وبلى والله ، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات ، فتكون المعصية معصيتين ، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام ؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء . وقد تقدم . وروى أبو داود ، عن يعلى بن أمية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه . وهو قول عمر بن الخطاب . والعموم يأتي على هذا كله .

السادسة : ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك ، وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله . وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر قالوا : لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو ( بعدن أبين ) لعذبه الله .

قلت : هذا صحيح ، وقد جاء هذا المعنى في سورة ن والقلم مبينا ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى .

السابعة : الباء في ( بإلحاد ) زائدة كزيادتها في قوله تعالى : تنبت بالدهن ؛ وعليه حملوا قول الشاعر :

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أراد : نرجو الفرج . وقال الأعشى :

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

أي رزق : وقال آخر [ قيس بن زهير العبسي ] :

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

أي ما لاقت ؛ والباء زائدة ، وهو كثير . وقال الفراء : سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال : أرجو بذاك ، أي أرجو ذاك . وقال الشاعر :

بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان

أي المرخ . وهو قول الأخفش ، والمعنى عنده : ومن يرد فيه إلحادا بظلم . وقال الكوفيون : دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد ، والباء مع أن تدخل وتحذف . ويجوز أن يكون التقدير : ومن يرد الناس فيه بإلحاد . وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه . ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة . هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم . وقد ذكرناه آنفا .

 


اتصل بنا | الملكية الفكرية DCMA | سياسة الخصوصية | Privacy Policy | قيوم المستخدم

آيــــات - القرآن الكريم


© 2022