يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ
العامل في " يوم " " لتنبؤن " أو " خبير " لما فيه من معنى الوعيد ; كأن قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم .
أو بإضمار اذكر .
والغبن : النقص .
يقال : غبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته .
وقراءة العامة " يجمعكم " بالياء ; لقوله تعالى : " والله بما تعملون خبير " فاخبر .
ولذكر اسم الله أولا .
وقرأ نصر وابن أبي إسحاق والجحدري ويعقوب وسلام " نجمعكم " بالنون ; اعتبارا بقوله : " والنور الذي أنزلنا " .
ويوم الجمع يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض .
وقيل : هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله .
وقيل : لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم .
وقيل : لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته .
وقيل : لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي .ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ
أي يوم القيامة .
قال : وما أرتجي بالعيش في دار فرقة ألا إنما الراحات يوم التغابن وسمى يوم القيامة يوم التغابن ; لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار .
أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة , وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة ; فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر , والجيد بالرديء , والنعيم بالعذاب .
يقال : غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك .
وكذا أهل الجنة وأهل النار ; على ما يأتي بيانه .
ويقال : غبنت الثوب وخبنته إذا طال عن مقدارك فخطت منه شيئا ; فهو نقصان أيضا .
والمغابن : ما انثنى من الخلق نحو الإبطين والفخذين .
قال المفسرون : فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة .
ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان , وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام .
قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته .
فإن قيل : فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها .
قيل له : هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع ; كما قال تعالى : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " [ البقرة : 16 ] .
ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا , ذكر أيضا أنهم غبنوا ; وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا , واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة .
وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا .
وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين : فريقا للجنة وفريقا للنار .
ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار .
فقد يسبق الخذلان على العبد - كما بيناه في هذه السورة وغيرها - فيكون من أهل النار , فيحصل الموفق على منزل المخذول ومنزل الموفق في النار للمخذول ; فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن .
والأمثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن .
وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت مفرقة في هذا الكتاب .
وقد يخبر عن هذا التبادل بالوراثة كما بيناه في " قد أفلح المؤمنون " [ المؤمنون : 1 ] والله أعلم .
وقد يقع التغابن في غير ذلك اليوم على ما يأتي بيانه بعد ; ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته .
وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف : رجل علم علما فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به , وعمل به من تعلمه منه فنجا به .
ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه , وفرط في طاعة ربه بسببه , ولم يعمل فيه خيرا , وتركه لوارث لا حساب عليه فيه ; فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه .
ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد , وعمل السيد بمعصية ربه فشقي .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا فما أنتما بقائلين فيقول الرجل يا رب أوجبت نفقتها علي فتعسفتها من حلال وحرام وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك ولم يبق لي ما أوفي به فتقول المرأة يا رب وما عسى أن أقول اكتسبه حراما وأكلته حلالا وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعدا له وسحقا فيقول الله تعالى قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة فتطلع عليه من طبقات الجنة وتقول له غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به ) فذلك يوم التغابن .
قال ابن العربي : استدل علماؤنا بقوله تعالى : " ذلك يوم التغابن " على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية ; لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة فقال : " ذلك يوم التغابن " وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا ; فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث .
واختاره البغداديون واحتجوا عليه بوجوه : منها قوله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ : ( إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا ) .
وهذا فيه نظر طويل بيناه في مسائل الخلاف .
نكتته أن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين ; إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة , لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه لأحد , فمضى في البيوع ; إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا ; لأنه لا يخلو منه , حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به .
والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم , فقدر علماؤنا الثلث لهذا الحد ; إذ رأوه في الوصية وغيرها .
ويكون معنى الآية على هذا : ذلك يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل .
أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا ; لأن تغابن الدنيا يستدرك بوجهين : إما برد في بعض الأحوال , وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى .
فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا .
وقد قال بعض علماء الصوفية : إن الله كتب الغبن على الخلق أجمعين , فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا , لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب .
وفي الأثر قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن , وإن كان محسنا إن لم يزدد ) .وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
والجنات : البساتين , وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها , ومنه : المجن والجنين والجنة .تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
أي من تحت أشجارها , ولم يجر لها ذكر , لأن الجنات دالة عليها .
" الأنهار " أي ماء الأنهار , فنسب الجري إلى الأنهار توسعا , وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا , كما قال تعالى : " واسأل القرية " [ يوسف : 82 ] أي أهلها .
وقال الشاعر : نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس أراد : أهل المجلس ; فحذف .
والنهر : مأخوذ من أنهرت , أي وسعت , ومنه قول قيس بن الخطيم : ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها أي وسعتها , يصف طعنة .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ) .
معناه : ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر .
وجمع النهر : نهر وأنهار .
ونهر نهر : كثير الماء ; قال أبو ذؤيب : أقامت به فابتنت خيمة على قصب وفرات نهر وروي : أن أنهار الجنة ليست في أخاديد , إنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها .
والوقف على " الأنهار " حسن وليس بتامذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
الكبير