قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم لما ذكر الإنسان ذكر ما من به عليه . والأنعام : الإبل والبقر والغنم . وأكثر ما يقال : نعم وأنعام للإبل ، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة . قال حسان :
عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بني الحسحاس قفر
تعفيها الروامس والسماء وكانت لا يزال بها أنيس
خلال مروجها نعم وشاء
فالنعم هنا الإبل خاصة . وقال الجوهري : والنعم واحد الأنعام وهي المال الراعية ، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل . قال الفراء : هو ذكر لا يؤنث ، يقولون : هذا نعم وارد ، ويجمع على نعمان مثل حمل وحملان . والأنعام تذكر وتؤنث ; قال الله - تعالى - : مما في بطونه . وفي موضع مما في بطونها . وانتصب الأنعام عطفا على الإنسان ، أو بفعل مقدر ، وهو أوجه .
الثانية : قوله تعالى : دفء الدفء : السخانة ، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، ملابس ولحف وقطف . وروي عن ابن عباس : دفؤها نسلها ; والله أعلم قال الجوهري في الصحاح : الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها ; قال الله - تعالى - : لكم فيها دفء . وفي الحديث ( لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق ) . والدفء أيضا السخونة ، تقول منه : دفئ الرجل دفاءة مثل كره كراهة . وكذلك دفئ دفأ مثل ظمئ ظمأ . والاسم الدفء بالكسر وهو الشيء الذي يدفئك ، والجمع الأدفاء . تقول : ما عليه دفء ; لأنه اسم . ولا تقول : ما عليك دفاءة ; لأنه مصدر . وتقول : اقعد في دفء هذا الحائط أي كنه . ورجل دفئ على فعل إذا لبس ما يدفئه . وكذلك رجل دفآن وامرأة دفأى . وقد أدفأه الثوب وتدفأ هو بالثوب واستدفأ به ، وأدفأ به وهو افتعل ; أي لبس ما يدفئه . ودفؤت ليلتنا ، ويوم دفيء على فعيل وليلة دفيئة ، وكذلك الثوب والبيت . والمدفئة الإبل الكثيرة ; لأن بعضها يدفئ بعضا بأنفاسها ، وقد يشدد . والمدفأة الإبل الكثيرة الأوبار والشحوم ; عن الأصمعي . وأنشد الشماخ :
وكيف يضيع صاحب مدفآت على أثباجهن من الصقيع
قوله تعالى : ومنافع قال ابن عباس : المنافع نسل كل دابة . مجاهد : الركوب والحمل والألبان واللحوم والسمن .
ومنها تأكلون أفرد منفعة الأكل بالذكر لأنها معظم المنافع . وقيل : المعنى ومن لحومها تأكلون عند الذبح .
الثالثة : دلت هذه الآية على لباس الصوف ، وقد لبسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء قبله كموسى وغيره . وفي حديث المغيرة : فغسل وجهه وعليه جبة من صوف شامية ضيقة الكمين . . . الحديث ، خرجه مسلم وغيره . قال ابن العربي : وهو شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين ، واختيار الزهاد والعارفين ، وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا ورديئا ، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية ; لأنه لباسهم في الغالب ، فالياء للنسب والهاء للتأنيث . وقد أنشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس طهره الله :
تشاجر الناس في الصوفي واختلفوا فيه وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى صافى فصوفي حتى سمي الصوفي