قوله تعالى : أمن هو قانت آناء الليل بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره . وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي أمن بالتشديد . وقرأ نافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة : " أمن هو " بالتخفيف على معنى النداء ، كأنه قال : يا من هو قانت . قال الفراء : الألف بمنزلة يا ، تقول : يا زيد أقبل ، وأزيد أقبل . وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين ، كما قال أوس بن حجر :
أبني لبينى لستم بيد إلا يدا ليست لها عضد
وقال آخر هو ذو الرمة :
أدارا بحزوى هجت للعين عبرة فماء الهوى يرفض أو يترقرق
فالتقدير على هذا : " قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار " يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة ، كما يقال في الكلام : فلان لا يصلي ولا يصوم ، فيا من يصلي ويصوم أبشر ، فحذف لدلالة الكلام عليه . وقيل : إن الألف في " أمن " ألف استفهام أي : " أمن هو قانت آناء الليل " أفضل ؟ أم من جعل لله أندادا ؟ والتقدير : الذي هو قانت خير . ومن شدد " أمن " فالمعنى : العاصون المتقدم ذكرهم خير أمن هو قانت فالجملة التي عادلت " أم " محذوفة ، والأصل أم من فأدغمت في الميم . النحاس : وأم بمعنى بل ، ومن بمعنى الذي ، والتقدير : أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر .
وفي قانت أربعة أوجه : أحدها : أنه المطيع ، قاله ابن مسعود . الثاني : أنه الخاشع في صلاته ، قاله ابن شهاب . الثالث : أنه القائم في صلاته ، قاله يحيى بن سلام . الرابع : أنه الداعي لربه . وقول ابن مسعود يجمع ذلك . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله - عز وجل - وروي عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي الصلاة أفضل ؟ فقال : طول القنوت وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام . وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال : ما أعرف القنوت إلا طول القيام ، وقراءة القرآن . وقال مجاهد : من القنوت طول الركوع وغض البصر . وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم ، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم ، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين . قال النحاس : أصل هذا أن القنوت الطاعة ، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل ، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة ، وما هو أكثر منها كما قال نافع : قال لي ابن عمر : قم فصل ، فقمت أصلي وكان علي ثوب خلق ، فدعاني فقال لي : أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضي هكذا ؟ فقلت : كنت أتزين ، قال : فالله أحق أن تتزين له . واختلف في تعيين القانت هاهنا ، فذكر يحيى بن سلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه : هو أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما . وقال ابن عمر : هو عثمان - رضي الله عنه - . وقال مقاتل : إنه عمار بن ياسر . الكلبي : صهيب وأبو ذر وابن مسعود . وعن الكلبي أيضا أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال . آناء الليل قال الحسن : ساعاته ، أوله وأوسطه وآخره . وعن ابن عباس : آناء الليل جوف الليل . قال ابن عباس : من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة ، فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ، ويرجو رحمة ربه . وقيل : ما بين المغرب والعشاء . وقول الحسن عام . " يحذر الآخرة " قال سعيد بن جبير : أي : عذاب الآخرة .
" ويرجو رحمة ربه " أي نعيم الجنة . وروي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا متمن . ولا يقف على قوله : " رحمة ربه " من خفف " أمن هو قانت " على معنى النداء ; لأن قوله : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون متصل إلا أن يقدر في الكلام حذف وهو أيسر ، على ما تقدم بيانه .
قال الزجاج : أي : كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . وقال غيره : الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به ، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم .
" إنما يتذكر أولو الألباب " أي أصحاب العقول من المؤمنين