قوله تعالى : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون .
قوله تعالى : ويوم يعرض أي ذكرهم يا محمد يوم يعرض . الذين كفروا على النار أي يكشف الغطاء فيقربون من النار وينظرون إليها . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها أي يقال لهم أذهبتم ، فالقول مضمر . وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية ويعقوب وابن كثير ( أأذهبتم ) بهمزتين مخففتين ، واختاره أبو حاتم . وقرأ أبو حيوة وهشام ( آذهبتم ) بهمزة واحدة مطولة على الاستفهام . الباقون بهمزة واحدة من غير مد على الخبر ، وكلها لغات فصيحة ومعناها التوبيخ ، والعرب توبخ بالاستفهام وبغير الاستفهام ، وقد تقدم . واختار أبو عبيد ترك الاستفهام لأنه قراءة أكثر أئمة السبعة نافع وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي ، مع من وافقهم شيبة والزهري وابن محيصن والمغيرة بن أبي شهاب ويحيى بن الحارث والأعمش ويحيى بن وثاب وغيرهم ، فهذه عليها جلة الناس . وترك الاستفهام أحسن ; لأن إثباته يوهم أنهم لم يفعلوا ذلك ، كما تقول : أنا ظلمتك ؟ تريد أنا لم أظلمك . وإثباته حسن أيضا ، يقول القائل : ذهبت ؟ فعلت كذا ؟ ، يوبخ ويقول : أذهبت ؟ فعلت ؟ . كل ذلك جائز . ومعنى أذهبتم طيباتكم أي : تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات ، يعني المعاصي . فاليوم تجزون عذاب الهون أي عذاب الخزي والفضيحة . قال مجاهد : الهون الهوان . قتادة : بلغة قريش .
[ قوله تعالى : ] بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق أي تستعلون على أهلها بغير استحقاق . وبما كنتم تفسقون في أفعالكم بغيا وظلما . وقيل : أذهبتم طيباتكم أي : أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي . قال ابن بحر : الطيبات الشباب والقوة ، مأخوذ من قولهم : ذهب أطيباه ، أي : شبابه وقوته . قال الماوردي : ووجدت الضحاك قاله أيضا .
قلت : القول الأول أظهر ، روى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : لأنا أعلم بخفض العيش ، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصنابا وصلائق ، ولكني أستبقي حسناتي ، فإن الله - عز وجل - وصف أقواما فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها وقال أبو عبيد في حديث عمر : لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسنمة . وفي بعض الحديث : وأفلاذ . قال أبو عمرو وغيره : الصلاء ( بالمد والكسر ) : الشواء ، سمي بذلك لأنه يصلى بالنار . والصلاء أيضا : صلاء النار ، فإن فتحت الصاد قصرت وقلت : صلى النار . والصناب : الأصبغة المتخذة من الخردل والزبيب . قال أبو عمرو : ولهذا قيل للبرذون : صنابي ، وإنما شبه لونه بذلك . قال : والسلائق ( بالسين ) هو ما يسلق من البقول وغيرها . وقال غيره : هي الصلائق بالصاد ، قال جرير :
تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالصلائق والصناب
والصلائق : الخبز الرقاق العريض . وقد مضى هذا المعنى في ( الأعراف ) . وأما الكراكر فكراكر الإبل ، واحدتها كركرة وهي معروفة ، هذا قول أبي عبيد . وفي الصحاح : والكركرة رحى زور البعير ، وهي إحدى النفثات الخمس . والكركرة أيضا الجماعة من الناس . وأبو مالك عمرو بن كركرة رجل من علماء اللغة . قال أبو عبيد : وأما الأفلاذ فإن واحدها فلذ ، وهي القطعة من الكبد . قال أعشى باهلة :
تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر
وقال قتادة : ذكر لنا أن عمر - رضي الله عنه - قال : لو شئت كنت أطيبكم طعاما ، وألينكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة . ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله قال : هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير فقالخالد بن الوليد : لهم الجنة ، فاغرورقت عينا عمر بالدموع وقال : لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام ، وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بونا بعيدا . وفي صحيح مسلم وغيره أن عمر - رضي الله عنه - دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مشربته حين هجر نساءه قال : فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا أهبا جلودا معطونة قد سطع ريحها ، فقلت : يا رسول الله ، أنت رسول الله وخيرته ، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير ؟ قال : فاستوى جالسا وقال : ( أفي شك أنت يا ابن الخطاب . أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ) فقلت : استغفر لي فقال : ( اللهم اغفر له ) .
وقال حفص بن أبي العاص : كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخبز والزيت ، والخبز والخل ، والخبز واللبن ، والخبز والقديد ، وأقل ذلك اللحم الغريض . وكان يقول : لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله ، فجيء بخبز متفلع غليظ ، فجعل يأكل ويقول : كلوا ، فجعلنا لا نأكل ، فقال : ما لكم لا تأكلون ؟ فقلنا : والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا ، فقال : يا ابن أبي العاص أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصلية كأنها كذا وكذا ، أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أجل ما تنعت العيش ، قال : أجل والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش ولكني سمعت الله تعالى يقول لأقوام : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون أي : الهوان . بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق أي : تتعظمون عن طاعة الله وعلى عباد الله . وبما كنتم تفسقون تخرجون عن طاعة الله . وقال جابر : اشتهى أهلي لحما فاشتريته لهم فمررت بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال : ما هذا يا جابر ؟ فأخبرته ، فقال : أوكلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية : أذهبتم طيباتكم الآية . قال ابن العربي : وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء ، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء . فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله . والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه : على المرء أن يأكل ما وجد ، طيبا كان أو قفارا ، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ، ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسر ، ولا يعتمد أصلا ، ولا يجعله ديدنا . ومعيشة النبي - صلى الله عليه وسلم - معلومة ، وطريقة الصحابة منقولة ، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير ، والله يهب الإخلاص ، ويعين على الخلاص برحمته . وقيل : إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة ، وهو حسن ، فإن تناول الطيب الحلال مأذون فيه ، فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل له فقد أذهبه . والله أعلم .