وقيل : انقطع الإخبار عن الجن هاهنا فقال الله تعالى : وأنه كان رجال من الإنس فمن فتح وجعله من قول الجن ردها إلى قوله : أنه استمع ، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى . والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بواد : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ; فيبيت في جواره حتى يصبح ; قاله الحسن وابن زيد وغيرهما .
قال مقاتل : كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم . وقال كردم بن أبي السائب : خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم ، فقال الراعي : يا عامر الوادي ، [ أنا ] جارك . فنادى مناد يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد . وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا أي زاد الجن الإنس رهقا أي خطيئة وإثما ; قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة . والرهق : الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم ; ورجل رهق إذا كان كذلك ; ومنه قوله تعالى : وترهقهم ذلة وقال الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا
يعني إثما . وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها . وقال مجاهد أيضا : فزادوهم أي إن الإنس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ ، حتى قالت الجن : سدنا الإنس والجن . وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد : ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن .
وقال سعيد بن جبير : كفرا . ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك . وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجن ; فالمعنى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس ، وكان الرجل من الإنس يقول مثلا : أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي . قال القشيري : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجن .