قوله تعالى : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق .
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن يسبحن في موضع نصب على الحال . ذكر تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة وهو تسبيح الجبال معه . قال مقاتل : كان داود إذا ذكر الله - جل وعز - ذكرت الجبال معه ، وكان يفقه تسبيح الجبال . وقال ابن عباس : يسبحن يصلين . وإنما يكون هذا معجزة إذا رآه الناس وعرفوه . وقال محمد بن إسحاق : أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن ، وما تصغي لحسنه الطير وتصوت معه ، فهذا تسبيح الجبال والطير . وقيل : سخرها الله - عز وجل - لتسير معه فذلك تسبيحها ; لأنها دالة على تنزيه الله عن شبه المخلوقين . وقد مضى القول في هذا في [ سبأ ] وفي [ سبحان ] عند قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وأن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال . والله أعلم .
بالعشي والإشراق الإشراق أيضا ابيضاض الشمس بعد طلوعها . يقال : شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت . فكان داود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها . .
الثانية : روي عن ابن عباس أنه قال : كنت أمر بهذه الآية : بالعشي والإشراق ولا أدري ما هي ، حتى حدثتني أم هانئ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها ، فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى صلاة الضحى ، وقال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق . وقال عكرمة قال ابن عباس : كان في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في القرآن يسبحن بالعشي والإشراق . قال عكرمة : وكان ابن عباس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلاها بعد . وروي أن كعب الأحبار قال لابن عباس : إني أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس هي صلاة الأوابين . فقال ابن عباس : وأنا أوجدك في القرآن ، ذلك في قصة داود : يسبحن بالعشي والإشراق . .
الثالثة : صلاة الضحى نافلة مستحبة ، وهي في الغداة بإزاء العصر في العشي ، لا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة ، ويرتفع كدرها ، وتشرق بنورها ، كما لا تصلى العصر إذا اصفرت الشمس . وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صلاة الأوابين حين ترمض الفصال الفصال والفصلان جمع فصيل ، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل . والرمضاء شدة الحر في الأرض . وخص الفصال هنا بالذكر ; لأنها هي التي ترمض قبل انتهاء شدة الحر التي ترمض بها أمهاتها لقلة جلدها ، وذلك يكون في الضحى أو بعده بقليل ، وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها ، قاله القاضي أبو بكر بن العربي . ومن الناس من يبادر بها قبل ذلك استعجالا ، لأجل شغله فيخسر عمله ; لأنه يصليها في الوقت المنهي عنه ويأتي بعمل هو عليه لا له .
الرابعة : روى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة قال : حديث غريب . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر . وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت : صوم ثلاثة أيام من كل شهر ، وصلاة الضحى ، ونوم على وتر لفظ البخاري . وقال مسلم : وركعتي الضحى . وخرجه من حديث أبي الدرداء كما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة . وهذا كله يدل على أن أقل الضحى ركعتان وأكثره ثنتا عشرة . والله أعلم . وأصل السلامى ( بضم السين ) عظام الأصابع والأكف والأرجل ، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله . وروي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل ، فمن كبر الله ، وحمد الله ، وهلل الله ، وسبح الله ، واستغفر الله ، وعزل حجرا عن طريق الناس ، أو شوكة ، أو عظما عن طريق الناس ، وأمر بمعروف ، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة سلامى ، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار قال أبو توبة : وربما قال : يمسي كذا . خرجه مسلم . وقوله : ويجزي من ذلك ركعتان أي : يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان . وذلك أن الصلاة عمل بجميع أعضاء الجسد ، فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل . والله أعلم .