ثم وصف النار فقال : إنها ترمي بشرر كالقصر الشرر : واحدته شررة . والشرار : واحدته شرارة ، وهو ما تطاير من النار في كل جهة ، وأصله من شررت الثوب إذا بسطته للشمس ليجف . والقصر البناء العالي . وقراءة العامة كالقصر بإسكان الصاد : أي الحصون والمدائن في العظم وهو واحد القصور . قاله ابن عباس وابن مسعود . وهو في معنى الجمع على طريق الجنس . وقيل : القصر جمع قصرة ساكنة الصاد ، مثل جمرة وجمر وتمرة وتمر . والقصرة : الواحدة من جزل الحطب الغليظ .
وفي البخاري عن ابن عباس أيضا : ترمي بشرر كالقصر قال كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل ، فترفعه للشتاء ، فنسميه القصر ، وقال سعيد بن جبير والضحاك : هي أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع . وقيل : أعناقه . وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد والسلمي ( كالقصر ) بفتح الصاد ، أراد أعناق النخل . والقصرة العنق ، جمعها قصر وقصرات . وقال قتادة : أعناق الإبل . قرأ سعيد بن جبير بكسر القاف وفتح الصاد ، وهي أيضا جمع قصرة مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع وحلقة وحلق ، لحلق الحديد . وقال أبو حاتم : ولعله لغة ، كما قالوا : حاجة وحوج .
وقيل : القصر : الجبل ، فشبه الشرر بالقصر في مقاديره ، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر ، وهي الإبل السود ; والعرب تسمي السود من الإبل صفرا ; قال الشاعر [ الأعشى ] :
تلك خيلي منه وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب
أي هن سود . وإنما سميت السود من الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة ; كما قيل لبيض الظباء : الأدم ; لأن بياضها تعلوه كدرة : والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار ، أشبه شيء بالإبل السود ، لما يشوبها من صفرة . وفي شعر عمران بن حطان الخارجي :
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى
وضعف الترمذي هذا القول فقال : وهذا القول محال في اللغة ، أن يكون شيء يشوبه شيء قليل ، فنسب كله إلى ذلك الشائب ، فالعجب لمن قد قال هذا ، وقد قال الله تعالى : جمالة صفر فلا نعلم شيئا من هذا في اللغة . ووجهه عندنا أن النار خلقت من النور فهي نار مضيئة ، فلما خلق الله جهنم وهي موضع النار ، حشا ذلك الموضع بتلك النار ، وبعث إليها سلطانه وغضبه ، فاسودت من سلطانه وازدادت حدة ، وصارت أشد سوادا من النار ومن كل شيء سوادا ، فإذا كان يوم القيامة وجيء بجهنم في الموقف رمت بشررها على أهل الموقف ، غضبا لغضب الله ، والشرر هو أسود ; لأنه من نار سوداء ، فإذا رمت النار بشررها فإنها ترمي الأعداء به ، فهن سود من سواد النار ، لا يصل ذلك إلى الموحدين ; لأنهم في سرادق الرحمة قد أحاط بهم في الموقف ، وهو الغمام الذي يأتي فيه الرب تبارك وتعالى ، ولكن يعاينون ذلك الرمي ، فإذا عاينوه نزع الله ذلك السلطان والغضب عنه في رأي العين منهم حتى يروها صفراء ; ليعلم الموحدون أنهم في رحمة الله لا في سلطانه وغضبه . وكان ابن عباس يقول : الجمالات الصفر : حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال . ذكره البخاري . وكان يقرؤها ( جمالات ) بضم الجيم ، وكذلك قرأ مجاهد وحميد ( جمالات ) بضم الجيم ، وهي الحبال الغلاظ ، وهي قلوس السفينة أي حبالها . وواحد القلوس : قلس . وعن ابن عباس أيضا على أنها قطع النحاس . والمعروف في الحبل الغليظ جمل بتشديد الميم كما تقدم في ( الأعراف ) . و ( جمالات ) بضم الجيم : جمع جمالة بكسر الجيم موحدا ، كأنه جمع جمل ، نحو حجر وحجارة ، وذكر وذكارة ، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري ( جمالة ) بضم الجيم موحدا وهي الشيء العظيم المجموع بعضه إلى بعض . وقرأ حفص وحمزة والكسائي ( جمالة ) وبقية السبعة ( جمالات ) قال الفراء : يجوز أن تكون الجمالات جمع جمال كما يقال : رجل ورجال ورجالات . وقيل : شبهها بالجمالات لسرعة سيرها . وقيل : لمتابعة بعضها بعضا .
والقصر : واحد القصور . وقصر الظلام : اختلاطه ويقال : أتيته قصرا أي عشيا ، فهو مشترك ; قال [ كثير عزة ] :
كأنهم قصرا مصابيح راهب بموزن روى بالسليط ذبالها
مسألة : في هذه الآية دليل على جواز ادخار الحطب والفحم وإن لم يكن من القوت ، فإنه من مصالح المرء ومغاني مفاقره ، وذلك مما يقتضي النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته ; ليكون أرخص وحالة وجوده أمكن ، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه وماله ، وكل شيء محمول عليه . وقد بين ابن عباس هذا بقوله : كنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه وندخره للشتاء وكنا نسميه القصر . وهذا أصح ما قيل في ذلك ، والله أعلم .