ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ والتقفيه إتباع الرسول برسول آخر يقال: قفا فلان أثر فلان.. إذا اتبعه، وقفى على أثره بفلان، إذا اتبعه إياه.. وأصله من القفا وهو مؤخر العنق.. فكأن الذي يتبع أثر غيره قد أتاه من جهة قفاه.
وضمير الجمع في قوله عَلى آثارِهِمْ يعود إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب.
أى: ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول. حتى انتهينا إلى عيسى- عليه السلام- وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أى: أوحيناه إليه ليكون هداية لقومه.
قالوا: والإنجيل كلمة يونانية من النجل وهو الأصل، يقال: رحم الله ناجليه، أى:
والديه، وقيل: الإنجيل مأخوذ من نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته. ويقال للماء الذي يخرج من البئر: نجل. وقيل هو من النجل الذي هو سعة العين، ومنه قولهم: طعنة نجلاء، أى: واسعة.
وسمى الإنجيل بهذا الاسم، لأنه سعة ونور وضياء، أنزله الله- تعالى- على نبيه عيسى، ليكون بشارة وهداية لقومه .
وأعاد- سبحانه- مع عيسى- عليه السلام- كلمة وَقَفَّيْنا للإشعار بأن المسافة التي كانت بين عيسى- عليه السلام- وبين آخر رسول من بنى إسرائيل كانت مسافة طويلة.
ثم بين- سبحانه- بعض السمات التي كانت واضحة في أتباع عيسى فقال: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ.
والرأفة: اللين وخفض الجناح، والرحمة. العطف والشفقة.
قالوا: وعطف الرحمة على الرأفة من باب عطف العام على الخاص، لأن الرأفة، رحمة خاصة، تتعلق بدفع الأذى والضر. أما الرحمة فهي أشمل وأعم، لأنها عطف وشفقة على كل من كان في حاجة إليها.
و «الرهبانية» معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان. وهم النصارى المبالغون في الرهبة والخوف من الله- تعالى- والزهد في متاع الحياة الدنيا.
قال بعض العلماء: والرهبانية: اسم للحالة التي يكون عليها الراهب متصفا بها في غالب شئون دينه، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس، لأن قياس النسب إلى الراهب: الراهبية، والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة، كما زيدت في قولهم: شعرانى، لكثير الشعر، ولحياني لعظيم اللحية «2» .
وقوله- تعالى-: ورهبانية ابتدعوها.. منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
أى: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، فهو من باب الاشتغال.
ويصح أن يكون معطوفا على قوله: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وقوله: ابْتَدَعُوها في موضع الصفة، والكلام على حذف مضاف، أى: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة لهم.
وجملة: ما كتبناها عليهم، مستأنفة مبينة لجملة ابْتَدَعُوها.
والاستثناء في قوله: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ منقطع.
والضمير في قوله: فَما رَعَوْها يعود لهؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية.
والمعنى: ثم أتبعنا كل رسول من ذرية نوح وإبراهيم برسول آخر، حتى انتهينا إلى عيسى- عليه السلام- فأرسلناه إلى بنى إسرائيل وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه وآمنوا به رَأْفَةً أى لينا وخفض جناح وَرَحْمَةً أى: شفقة وعطفا، وحب رهبانية مبتدعة منهم، أى: هم الذين ابتدعوها واخترعوها واختاروها لأنفسهم، زهدا في متاع الحياة الدنيا.
ونحن ما كتبنا عليهم هذه الرهبانية، وإنما هم الذين ابتدعوها من أجل أن يرضى الله عنهم فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أى: ولكنهم بمرور الأيام، لم يحافظ كثير منهم على ما تقتضيه هذه الرهبانية من زهد وتقى وعفاف.. بل صارت طقوسا خالية من العبادة الصحيحة، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم.
ولذا ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
أى: أما الذين استمروا على اتباعهم لعيسى- عليه السلام- وعلى الإيمان بالحق إيمانا صحيحا خاليا مما يفسده.. فقد أعطيناهم أجورهم الطيبة كاملة غير منقوصة.
وأما الذين بدلوا ما جاء به عيسى- عليه السلام- حيث كفروا به وقالوا: الله ثالث ثلاثة، أو قالوا: المسيح ابن الله فسيلقون ما يستحقونه من عقاب.
وقوله: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يدل على أن الذين خرجوا عن الدين الحق الذي جاء به عيسى- عليه السلام- وفسقوا عن أمر ربهم.. أكثر من الذين آمنوا به إيمانا صحيحا.
قال الإمام ابن جرير: واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها.
فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، ولم يقوموا بها، ولكنهم بدلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى، فتنصروا وتهودوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حتى رعايتها، لأنهم كانوا كفارا.. فهم الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك لأن الله- تعالى- قد أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم، فدل ذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها.
وكثير منهم- أى: من الذين ابتدعوا الرهبانية- أهل معاص، وخروج عن طاعة الله- تعالى- وعن الإيمان به .
وقال الإمام الآلوسى ما ملخصه: وقوله- تعالى- ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ جملة مستأنفة.
وقوله- سبحانه-: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أى: ما فرضناها نحن عليهم رأسا، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله.
وقوله- تعالى-: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أى: ما حافظوا عليها حق المحافظة، ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر، وهو عهد مع الله- تعالى- يجب رعايته، لا سيما إذا قصد به رضاه- عز وجل.
وجائز أن يكون الاستثناء متصلا من أعم العلل. أى: ما قضيناها عليهم لشيء من الأشياء، إلا ليبتغوا بها رضوان الله، ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها.. إلا أنهم لم يحافظوا عليها، ولم يرعوها حق رعايتها.
والفرق بين الوجهين: أن الأول يقتضى أنهم لم يؤمروا بها أصلا، وأن الثاني يقتضى أنهم أمروا بها، لابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها.
والظاهر أن الضمير في قوله فَما رَعَوْها يعود لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفى وقوع الرعاية من جميعهم، أى: فما رعاها كلهم بل بعضهم .
فالآية الكريمة تثنى على الذين أحسنوا اتباع عيسى- عليه السلام- فطهروا أرواحهم من كل دنس، وزهدوا في متع الحياة الدنيا.. وتذم الذين بدلوا ما جاء به عيسى- عليه السلام- وقالوا الأقوال الباطلة في شأنه، وفعلوا الأفعال القبيحة التي تغضب الله- تعالى-:
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذا النداء للمؤمنين فقال- تعالى: