بعد أن بين- سبحانه- في الآية السابقة أن الله- تعالى- قد أخذ على بنى إسرائيل عهدا بأن يعبدوه ويؤدوا فرائض الله، إلا أنهم نقضوا هذا العهد وتولوا عنه سوى قليل منهم بعد ذلك بين في هذه الآيات الكريمة أنه- سبحانه- أخذ عليهم عهدا آخر ولكنهم نقضوه كما هو دأبهم.
وملخص هذا العهد الذي ذكرته الآيات الكريمة، أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق ألا يقتل بعضهم بعضا، وألا يخرج بعضهم بعضا من داره، وأنهم إذا وجدوا أسيرا منهم في يد غيرهم فإن عليهم أن يبذلوا أموالهم لفدائه من الأسر، وتخليصه من أيدى أعدائهم، ثم لما نشبت الحرب بين قبيلتي الأوس والخزرج، انضمت قبيلة بنى قريظة إلى الأوس، وانضمت قبيلة بنى قينقاع وبنى النضير إلى الخزرج، وصارت كل طائفة من طوائف اليهود تقاتل بجانب أبناء ملتهم المنضمين إلى حلفائهم الآخرين فإذا وضعت الحرب أوزارها، بذل جميع اليهود أموالهم لتخليص الأسرى من أعدائهم كما أمرهم- تعالى- وبهذا يكونون قد آمنوا ببعض الكتاب وهو بذل الفداء لتخليص الأسرى، وكفروا ببعضه وهو تحريم سفك دماء إخوانهم وإخراجهم من ديارهم، ويحكى التاريخ أن العرب كانوا يعيرونهم فيقولون لهم: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم؟ فكان اليهود يقولون: قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفتدى أسرانا.
وقد توعدهم- سبحانه- بالخزي في الدنيا والآخرة، جزاء نقضهم لعهوده، وتفريقهم بين أحكامه.
والمعنى الإجمالى للآيات الكريمة: واذكروا- أيضا- يا بنى إسرائيل وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأوصيناكم فيه بألا يتعرض بعضكم لبعض بالقتل، وبألا يخرج بعضكم بعضا من مساكنهم، ثم أقررتم وأنتم تشهدون على الوفاء بهذا العهد، والالتزام بما جاء فيه، ثم أنتم هؤلاء- يا معشر اليهود- بعد إقراركم بالميثاق، وبعد شهادتكم المؤكدة على أنفسكم بأنكم قد قبلتموه، خرجتم على تعاليم التوراة، فنقضتم عهودكم، وأراق بعضكم دماء بعض، وأخرجتم إخوانكم في الملة والدم من ديارهم ظلما وعدوانا، وتعاونتم على قتلهم وإخراجهم مع من ليسوا من ملتكم أو قرابتكم، ومع ذلك فإذا وقع إخوانكم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم في الأسر فاديتموهم، فلم لم تتبعوا حكم التوراة في النهى عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم؟ وكيف تستبيحون القتل والإخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدى عدوهم؟ إن هذا التفريق بين أحكام الله جزاء فاعله الهوان في الدنيا.
والعذاب الدائم في الأخرى، وما الله بغافل عما تعملون. ولا شك أن أولئك اليهود الذين نقضوا عهودهم، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، قد باعوا دينهم بدنياهم، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ معناه: اذكروا حين أخذنا العهد عليكم يا بنى إسرائيل ألا يسفك أحد منكم دم غيره، وألا يخرجه من دياره. على حد قوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أى فليسلّم بعضكم على بعض.
وفائدة هذا التعبير، التنبيه إلى أن الأمة المتواصلة بالدين، يجب أن يكون شعورها بالوحدة قويا وعميقا، بحيث يكون قتل الرجل لغيره قتلا لنفسه، وإخراجه له من داره إخراجا لها.
قال صاحب المنار: (وقد أورد- سبحانه- النهى عن سفك بعضهم دم بعض، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم، بعبارة تؤكد وحدة الأمة، وتحدث في النفس أثرا شريفا، يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر، ووجدان يتأثر فقال تعالى:
لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده، وقال تعالى: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على هذا النسق، وهذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن الكريم».
وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ تسجيل عليهم بأنهم قد قبلوا العمل بالميثاق والتزموا به، إذ المعنى: ثم اعترفتم بهذا الميثاق- أيها اليهود- ولم تنكروه، فكان من الواجب عليكم أن تفوا به، فماذا كان موقفهم بعد هذا الإقرار والإشهاد؟.