أورد بعض المفسرين روايات في سبب نزول هذه الآيات:
منها، ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر أن اليهود جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل منهم وامرأة قد زنيا. فقال لهم: «كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نفحمهما- أى نجعل على وجوههما الفحم تنكيلا بهما، ونضربهما. فقال: ألا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئا.
فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم. فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فوضع مدراسها- الذي يدرسها منهم- كفه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن الرجم. فقال ما هذه؟ - أى أن عبد الله بن سلام رفع يد القارئ عن آية الرجم وقال له ما هذه- فلما رأى اليهود ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد» .
وقال ابن عباس: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت المدارس على جماعة من يهود- أى دخل عليهم في المكان الذي يتدارسون فيه علومهم- فدعاهم إلى الله. فقال له بعضهم: على أى دين أنت يا محمد؟ فقال: إنى على ملة إبراهيم ودينه. فقالوا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فهلموا إلى التوراة هي بيننا وبينكم فأبوا عليه فأنزل الله هذه الآيات.
وذكر النقاش أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: «هلموا إلى التوراة ففيها صفتي «فأبوا» .
قال ابن جرير ما ملخصه: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله- تعالى- قد أخبر عن طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم دعوا إلى التوراة للتحاكم إليها في بعض ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأبوا. ويجوز أن يكون هذا التنازع في أمر نبوته، أو في أمر إبراهيم ودينه، أو في حد من الحدود فإن كل ذلك مما نازعوا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .
وكأن ابن جرير- رحمه الله- يريد أن يقول: إن الآيات الكريمة تتسع لكل ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما دعاهم إلى أن يحكم التوراة بينه وبينهم في شأن هذا التنازع أبوا وأعرضوا وهو رأى حسن.
والاستفهام في قوله أَلَمْ تَرَ للتعجيب من شأنهم ومن سوء صنيعهم حيث دعوا إلى كتابهم ليحكم بينهم فامتنعوا عن ذلك لأنهم كانوا- كما يقول الآلوسى- «إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن الحجة» ثم قال:
و «من» إما للتبعيض وإما للبيان، ومعنى «نصيب» هو الكتاب أو نصيبا منه، لأن الوصول إلى كنه كلامه- سبحانه- متعذر «فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم. وإن جعل تبعيضا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه، وعلى التقديرين اللام في «الكتاب» للعهد والمراد به التوراة» .
والمعنى: قد علمت أيها العاقل حال أولئك الأحبار من اليهود الذين أعطوا قسطا من معرفة كتابهم والذين دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى التحاكم إلى التوراة التي هي كتابهم فيما حدث بينهم وبينه من نزاع فأبوا أن يستجيبوا لدعوته، وأعرضوا عنها كما هو شأنهم ودأبهم في الأعراض عن الحق والصواب.
وعرف المتحدث عنهم- وهم أحبار اليهود- بطريق الموصولية، لأن في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم، لأن كونهم على علم من الكتاب قليل أو كثير من شأنه أن يصدهم عما أخبر به عنهم لو كانوا يعقلون.
وجملة يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ مستأنفة مبينة لمحل التعجب، أو حال من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب.
والمراد بكتاب الله: التوراة، لأن سبب النزول يؤيد ذلك، ولأن التعجيب من حالهم يكون أشد إذا كان إعراضهم إنما هو عن كتابهم. وقيل المراد به القرآن.
وقوله ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ معطوف على قوله يُدْعَوْنَ وجاء العطف بثم للإشعار بالفارق الشاسع بين ما قاموا به من إعراض عن الحق، وبين ما كان يجب عليهم أن يفعلوه. فإن علمهم بالكتاب كان يقتضى أن يتبعوه وأن يعملوا بأحكامه، ولكنهم أبوا ذلك لفساد نفوسهم.
وقوله مِنْهُمْ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لفريق.
وإنما قال فَرِيقٌ مِنْهُمْ ليخرج القلة التي أسلمت من علماء اليهود كعبد الله بن سلام، وهذا من إنصاف القرآن في أحكامه. واحتراسه في سوق الحقائق، فهو لا يلقى الأحكام على الجميع جزافا، وإنما يحدد هذه الأحكام بحيث يدين المتهم، ويبرئ ساحة البريء.
وقوله وَهُمْ مُعْرِضُونَ حال من فريق، أى ثم يتولى فريق منهم عن سماع الحق، والانقياد لأحكامه، وينفر منها نفورا شديدا. والحال أنهم قوم ديدنهم الإعراض والانصراف عن الحق.