ثم أمن الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم من خداع أعدائه، إن هم أرادوا خيانته، وبيتوا له الغدر من وراء الجنوح إلى السلم فقال- تعالى-: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
أى: وإن يرد هؤلاء الأعداء الذين جنحوا إلى السلم في الظاهر أن يخدعوك- يا محمد- لتكف عنهم حتى يستعدوا لمقاتلتك فلا تبال بخداعهم، بل صالحهم مع ذلك إذا كان في الصلح مصلحة للإسلام وأهله، ولا تخف منهم، فإن الله كافيك بنصره ومعونته، فهو- سبحانه- الذي أمدك بما أمدك به من وسائل النصر الظاهرة والخافية، وهو- سبحانه- الذي أيدك بالمؤمنين الذين هانت عليهم أنفسهم وأموالهم في سبيل إعزاز هذا الدين، وإعلاء كلمته..
فالآية الكريمة تشجيع للنبي صلى الله عليه وسلم على السير في طريق الصلح ما دام فيه مصلحة للإسلام وأهله، وتبشير له بأن النصر سيكون له حتى ولو أراد الأعداء بإظهار الميل إلى السلم المخادعة والمراوغة. وقوله: حَسْبَكَ صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل. أى. بحسبك وكافيك.
قال الفخر الرازي: فإن قيل: أليس قد قال- تعالى- وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ... أى: أظهر نقض ذلك العهد، وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية؟
قلنا: قوله: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير، إلا أنه لم تظهر أمارات على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسالمة وترك المنازعة..
فإن قيل: لما قال: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ فأى حاجة مع نصره إلى المؤمنين حتى قال وَبِالْمُؤْمِنِينَ؟
قلنا: التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين: أحدهما ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة والثاني ما يحصل بواسطة أسباب معلومة.
فالأول هو المراد من قوله أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ والثاني هو المراد من قوله:
وَبِالْمُؤْمِنِينَ.