لقد كانت نتيجة دعواتهم، أن أجاب الله لهم سؤالهم وحقق لهم مطلوبهم فقال- تعالى- فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ!!.
قال الحسن البصري: «ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم» .
وقال جعفر الصادق: «من حزبه أمر فقال خمس مرات رَبَّنا أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد، قيل: وكيف ذلك؟ قال: اقرءوا إن شئتم قوله- تعالى- الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً ... إلخ فإن هؤلاء الأخيار قد نادوا ربهم خمس مرات فأجاب الله لهم دعاءهم.
ودلت الفاء في قوله فَاسْتَجابَ على سرعة الإجابة، لأن الفاء للتعقيب، فهم لأنهم دعوا الله بقلب سليم، أجاب الله لهم دعاءهم بدون إبطاء.
واستجاب هنا بمعنى أجاب عند جمهور العلماء، إذ السين والتاء للتأكيد، مثل استوقد واستخلص.
وقال بعضهم: إن استجاب أخص من أجاب، لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعى إليه، وأجاب أعم فيقال لمن أجاب بالقبول وبالرد.
والمعنى: أن الله- تعالى- قد بشر هؤلاء الأخيار برضاه عنهم، بأن أخبرهم بأنه قد أجاب لهم دعاءهم، وأنه- سبحانه- لا يضيع عمل عامل منهم، بل سيجازيهم بالجزاء الأوفى، وسيمنحهم من الثواب. فوق ما عملوا لأنه هو الكريم الوهاب، ولن يفرق في عطائه بين ذكر وأنثى، لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر وقد خلقهم جميعا من نفس واحدة.
وفي التعبير باللفظ السامي رَبُّهُمْ إشارة إلى أن الذي سيجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم، والرحيم بهم.
ومعنى لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ لا أزيل ثواب عمل أى عامل منكم، بل أكافئه عليه بما يستحقه، وأعطيه من ثوابي ورحمتي ما يشرح صدره، ويدخل البهجة والسرور على نفسه.
وقوله مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان لعامل، وتأكيد عمومه، أى لا أضيع عمل أى شخص عامل سواء أكان هذا العامل ذكرا أم أنثى.
ومعنى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، كلكم بنو آدم وهذه جملة معترضة مبينة لسبب شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده من أجر جزاء أعمالهم الصالحة.
روى الترمذي عن أم سلمة قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله- تعالى- ذكر النساء في الهجرة، فأنزل الله- تعالى- فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.
ثم بين- سبحانه- الأعمال الصالحة التي استحق بها هؤلاء الأبرار حسن الثواب منه- سبحانه- فقال: فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي، وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.
أى: فالذين هاجروا بأن تركوا أوطانهم التي أحبوها إلى أماكن أخرى من أجل إعلاء كلمة الله، وأخرجوا من ديارهم، فرارا بدينهم من ظلم الظالمين، واعتداء المعتدين، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أى تحملوا الأذى والاضطهاد في سبيل الحق الذي آمنوا به وَقاتَلُوا أعداء الله وَقُتِلُوا وهم يجاهدون من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل.
هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك، وعدهم الله- تعالى- بالأجر العظيم فقال: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أى لأمحون عنهم ما ارتكبوه من سيئات، ولأسترنها عليهم حتى تعتبر نسيا منسيا وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أى تجرى من تحت قصورها الأنهار التي فيها العسل المصفى، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
وقوله ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أى لأثيبنهم ثوابا عظيما من عندي، والله- تعالى- عنده حسن الجزاء لمن آمن وعمل صالحا.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد منح هؤلاء الأخيار ذلك الأجر الجزيل لأنهم قد هاجروا من الأرض التي أحبوها إلى غيرها من أجل إعلاء كلمة الله، وأخرجوا منها مضطرين لا مختارين فرارا بدينهم، ولقد ذكر المؤرخون أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند ما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال: «يا مكة والله لأنت أحب بلاد الله إلى ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت» .
ولأنهم قد تحملوا من الأذى في سبيل الله، ولأنهم قد جاهدوا أعداء الله وأعداءهم حتى استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله.
وقوله فَالَّذِينَ هاجَرُوا مبتدأ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له، والتفخيم لشأنه. وخبره قوله لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.
وقوله وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ معطوف على هاجَرُوا. وجمع بينهما للإشعار بأنهم قد تركوا أوطانهم تارة باختيارهم ليبحثوا عن مكان أصلح لنماء دعوتهم، وانتشار الحق الذي اعتنقوه، وتارة بغير اختيارهم بل تركوها مجبرين ومضطرين بعد أن ألجأهم أعداؤهم إلى الخروج منها بسبب ما نالهم منهم من ظلم واعتداء.
وقوله وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي معطوف على ما قبله. والمراد من الإيذاء ما هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من جهة المشركين.
وجمع- سبحانه- بين قوله وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا للإشارة إلى أن للقسمين ثوابا وأنهم لن يصيبهم إلا إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، وقوله: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ جواب قسم محذوف، أى والله لأكفرن عنهم سيئاتهم.
وقدّم- سبحانه- تكفير سيئاتهم على إدخالهم الجنة، لأن التخلية- كما يقولون- مقدمة على التحلية، فهو أولا طهرهم من الذنوب والآثام ونقاهم منها، ثم أدخلهم بعد ذلك جنته وأعطاهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقوله ثَواباً مصدر مؤكد لما قبله، لأن المعنى لأثيبنهم على ما عملوه ثوابا عظيما.
وقوله مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صفة لقوله ثَواباً وهو وصف مؤكد لأن الثواب لا يكون إلا من عنده- تعالى-، لكنه صرح به- سبحانه- تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه.
وقوله وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
وقد ختم- سبحانه- الآية بهذه الجملة الكريمة لبيان اختصاصه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال في الدنيا لا يعد حسنا بجوار ما أعده- سبحانه- في الآخرة لعباده المتقين.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد دعت المؤمنين إلى الإكثار من ذكر الله وإلى التفكر السليم في عجائب صنعه، وساقت لنا ألوانا من الدعوات الطيبات الخاشعات التي تضرع بها الأخيار إلى خالقهم، وبينت لنا الثواب الجزيل والعطاء العظيم الذي منحه الله لهم في مقابل إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح، فقد جرت سنته- سبحانه- أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأنه لا يرد دعاء الأبرار من عباده.