والمراد بصيد البحر: ما توالده ومثواه في الماء. والمراد بالبحر: ما يشمل جميع المياه العذبة والملحة سواء أكانت أنهارا أم غدرانا أم غيرهما.
والمراد بالصيد: الاصطياد أو ما يصاد منه.
والمراد بطعامه: ما يطعم من صيده. وهو عطف على صَيْدُ من عطف الخاص على العام، ويكون الحل الواقع على الصيد المقصود به حل الانتفاع مطلقا ثم عطف عليه ما يفيد حل الأكل خاصة من باب إظهار الامتنان بالإنعام بما هو قوام الحياة وهو الأكل فإن صيد البحر قد يقصد لمنافع أخرى غير الأكل، كالانتفاع بزيت بعض أنواع المصيد منه.
ويرى ابن أبى ليلى أن المراد بالصيد والطعام المعنى المصدري، وقدر مضافا في صيد البحر، وجعل الضمير في طَعامُهُ يعود إليه لا إلى البحر، فيكون المعنى:
أحل لكم صيد حيوان البحر كما أحل لكم أن تأكلوا ما صدتموه منه. فهو يرى حل الأكل من جميع حيوانات البحر.
وقيل: بل المراد بصيد البحر ما أخذ بحيلة، وبطعامه ما ألقاه البحر من حيواناته أو انحسر عنه الماء وأخذه الآخذ من غير حيلة أو معالجة.
وقوله: مَتاعاً مفعول لأجله.
وقوله: وَلِلسَّيَّارَةِ متعلق بأحل. وهو جمع سيار باعتبار الجماعة.
والمراد بالسيارة: القوم المسافرون.
والمعنى: أحل الله لكم أيها المحرمون صيد البحر كما أحل لكم أكل ما يؤكل منه، لأجل تمتعكم وانتفاعكم بذلك في حال إقامتكم وفي حال سفركم فأنتم تتمتعون بهذه النعم مقيمين ومسافرين، وذلك يقتضى منكم الشكر لله لكي يزيدكم من هذه النعم.
قال ابن كثير ما ملخصه: وقد استدل الجمهور على حل ميتة البحر بهذه الآية وبما أخرجه الشيخان عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة وهم ثلاثمائة- قال: وأنا فيهم- قال فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فنى الزاد. قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت كبير. فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: هو رزق أخرجه الله لكم. هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله» .
وأخرج الإمام أحمد وأهل السنن ومالك والشافعى عن أبى هريرة: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله!! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. فإن توضأنا به عطشنا أنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» .
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» .
رواه الشافعى وأحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وله شواهد.
وقد احتج بهذه الآية أيضا من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ولم يستثن من ذلك شيئا. وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها.
وقال أبو حنيفة: لا يؤكل ما مات في البحر كما لا يؤكل ما مات في البر لعموم قوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ .
ثم أكد- سبحانه- حرمة صيد البر للمحرمين فقال. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً والمراد بصيد البر: ما كان توالده ومأواه في البر مما هو متوحش بأصل خلقته.
وبعض الفقهاء يرى أن التحريم هنا منصب على الفعل، وعليه فالآية إنما تدل على حرمة الاصطياد فقط، وأما الأكل منه- أى من الصيد- بأن يصيده حلال فلا تدل عليه الآية.
وبعضهم يرى أن التحريم هنا منصب على ذات الصيد. وعليه فتكون الآية تقتضي تحريم جميع وجوه الانتفاع بالصيد إلا ما يخرجه الدليل.
وقد بسط القرطبي الكلام في هذه المسألة فقال ما ملخصه: قوله- تعالى- وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً التحريم ليس صفة للأعيان وإنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ أى فعل الصيد وهو المنع من الاصطياد.
أو يكون الصيد بمعنى المصيد وهو الأظهر لإجماع العلماء أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه، ولا اصطياده، ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه.
وقد اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد، فقال مالك والشافعى وأحمد. إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله، لما رواه الترمذي والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» وقال أبو حنيفة: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال- سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله- تعالى- لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فحرم صيده وقتله على المحرمين دون ما صاده غيرهم.
وروى عن على بن أبى طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد. لحديث الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهى قال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» خرجه الأثمة واللفظ لمالك .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالدعوة إلى خشيته وتقواه وبالتذكير بالحشر وما فيه من حساب وعقاب فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أى: واتقوا الله في كل أحوالكم، وقفوا عند حدوده فلا تتجاوزوها، واعلموا أن مرجعكم وحشركم إليه وحده، وسيجازيكم على أعمالكم التي عملتموها في دنياكم.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أحلت للمحرم صيد البحر- فضلا من الله ورحمة- لأن البحر بعيد عن الحرم، والمحرم قد يحرم في منطقة قد تكون فيها بحار فتحريم صيد البحر عليه قد يؤدى إلى تعبه وإجهاده دون أن تكون هناك فائدة تعود على سكان الحرم.
أما الحكمة من وراء تحريم الصيد البرى على المحرمين فمنها: أن البيت الحرام بواد غير زرع، وسكان هذه المنطقة من وسائل حياتهم الصيد، فلو أبيح الصيد للمحرمين القادمين لزيارة البيت من كل فج عميق.. لأدى ذلك إلى قتل الكثير من الصيد البرى الذي هو مصدر انتفاع للقاطنين في تلك المناطق. وفضلا عن كل ذلك ففي تحريم الصيد البرى الذي يعيش في مناطق الحرم، تكريم لهذه المناطق، وتشريف لها، وإعلاء لشأنها ومكانتها. فهي أماكن الأمان والاطمئنان والسلام. لا للبشر وحدهم، بل للبشر ولغير البشر من مخلوقات الله التي نهت شريعته عن التعرض لها بسوء.
وبعد هذا النهى الشديد للمحرمين عن صيد البر وهم على هذه الحالة بين- سبحانه- المنزلة السامية للكعبة التي هي أشرف مكان، وأصلحه لأمان الناس واطمئنانهم كما بين- سبحانه- مكانة الأشهر الحرم وما يقدم فيها من خيرات لسكان الحرم- فقال- تعالى-: