ثم بين- سبحانه- حال قسم آخر من أقسام المتخلفين عن غزوة تبوك، فقال- تعالى-: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ...
قال الجمل: قوله: «وآخرون مرجون ... » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عمر وأبو بكر عن عاصم «مرجؤون» بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة. وقرأ الباقون «مرجون» دون تلك الهمزة.. وهما لغتان، يقال أرجأته وأرجيته..» .
وهذه الآية الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ...
والمعنى: ومن المتخلفين عن الخروج معك إلى تبوك- يا محمد- قوم آخرون موقوف أمرهم إلى أن يحكم الله فيهم بحكمه العادل، فهو- سبحانه- «إما يعذبهم» بأن يميتهم بلا توبة «وإما يتوب عليهم» أى: يقبل توبتهم.
وهذا الترديد الذي يدل عليه لفظ «إما» ، إنما هو بالنسبة للناس، وإلا فالله- تعالى- عليم بما هو فاعله بهم.
والحكمة من إيهام أمرهم، إثارة الهم والخوف في قلوبهم لتصح توبتهم لأن التوبة عند ما تجيء بعد ندم شديد، وتأديب نفسي.. تكون مرجوة القبول منه- سبحانه-.
وقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ أى: والله- تعالى- عليم بأحوال خلقه وبما يصلحهم في أمورهم، حكيم فيما يشرعه لهم من أحكام.
قال الآلوسى: والمراد بهؤلاء «المرجون لأمر الله..» كما جاء في الصحيحين: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، كانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهموا باللحاق به فلم يتيسر لهم ذلك- فقعدوا في المدينة كسلا وميلا إلى الدعة- ولم يكن تخلفهم عن نفاق، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان ما كان من أمر المتخلفين- قالوا:
لا عذر لنا إلا الخطيئة، ولم يعتذروا كما اعتذر غيرهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتنابهم.. إلى أن نزل قوله- تعالى- بعد ذلك: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.. فأمر صلى الله عليه وسلم بمخالطتهم، وكانت مدة وقفهم خمسين ليلة بقدر مدة التخلف، إذ كانت مدة غيبته صلى الله عليه وسلم عن المدينة خمسين ليلة، فلما تمتعوا بالراحة في تلك المدة مع تعب إخوانهم في السفر، عوقبوا بهجرهم ووقفهم تلك المدة..» .
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد ذكرت ثلاث طوائف من المتخلفين عن غزوة تبوك.
أما الطائفة الأولى فهي التي مردت على النفاق، وقد عبر عنها- سبحانه- بقوله:
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ...
وأما الطائفة الثانية فهي التي سارعت إلى الاعتذار والاعتراف بالذنب، فقبل الله توبتهم، وقد عبر عنها- سبحانه- بقوله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً.
وأما الطائفة الثالثة فهي التي لم تجد عذرا تعتذر به، فأوقف الله أمرهم إلى أن حكم بقبول توبتهم بعد خمسين ليلة، وقد عبر عنها- سبحانه- بقوله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ...
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها الطويل المتنوع عن النفاق والمنافقين، بالحديث عن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ليكون مكانا للإضرار بالإسلام والمسلمين، فقال- تعالى-.