قوله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا .
فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله أي خلق من النطفة إنسانا . فجعله أي جعل الإنسان نسبا وصهرا . وقيل : من الماء إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء . وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في ، إيجادهم بعد العدم ، والتنبيه على العبرة في ذلك .
الثانية : قوله تعالى : نسبا وصهرا النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين . قال ابن العربي : النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع ، فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا ، ولذلك لم يدخل تحت قوله : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم بنته من الزنى ; لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين ، وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا فلا يحرم الزنى بنت أم ولا أم بنت ، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام ; لأن الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما ، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما .
قلت : اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى ; فحرم ذلك قوم ، منهم ابن القاسم ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وأجاز ذلك آخرون ، منهم عبد الملك بن الماجشون ، وهو قول الشافعي ، وقد مضى هذا في ( النساء ) مجودا . قال الفراء : النسب الذي لا يحل نكاحه ، والصهر الذي يحل نكاحه . وقاله الزجاج : وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه . واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته ، فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه ، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها . وقيل : الصهر قرابة النكاح ; فقرابة الزوجة هم الأختان ، وقرابة الزوج هم الأحماء . والأصهار يقع عاما لذلك كله ، قاله الأصمعي .
وقال ابن الأعرابي : الأختان أبو المرأة وأخوها وعمها - كما قال الأصمعي - والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه . وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني : أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته ، وكل ذات محرم منه ، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته . قال النحاس : الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي ، وأن يكون من قبلهما جميعا . يقال : صهرت الشيء أي خلطته ; فكل واحد منهما قد خلط صاحبه . والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين : إحداهما الحديث المرفوع ، روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك . فهذا على أن زوج البنت ختن . والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه ; وكأن الزوج قد انقطع عن أهله ، وقطع زوجته عن أهلها . وقال الضحاك : الصهر قرابة الرضاع . قال ابن عطية : وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر خمس . وفي رواية أخرى من الصهر سبع ; يريد قوله عز وجل : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت فهذا هو النسب . ثم يريد بالصهر قوله تعالى : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم إلى قوله : وأن تجمعوا بين الأختين . ثم ذكر المحصنات . ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه ، فقد أشار بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر ، لا أن الرضاع صهر ، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه . ومن روى : وحرم من الصهر خمس ، أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات ; وهن ذوات الأزواج .
قلت : فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدم نسبا ، وهو قول الزجاج . قال أبو إسحاق : النسب الذي ليس بصهر من قوله جل ثناؤه : حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله وأن تجمعوا بين الأختين والصهر من له التزويج . قال ابن عطية : وحكى الزهراوي قولا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات .
قلت : وذكر هذا القول النحاس ، وقال : لأن المصاهرة من جهتين تكون . وقال ابن سيرين : نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه ; لأنه جمعه معه نسب وصهر . قال ابن عطية : فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة . وكان ربك قديرا على خلق ما يريده .