قوله تعالى : وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة أي اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة ; فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي .
قوله تعالى : ولا تنس نصيبك من الدنيا اختلف فيه ; فقال ابن عباس والجمهور : لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك ; إذ الآخرة إنما يعمل لها ، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها ، فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة وقال الحسن وقتادة : معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعاقبة دنياك ، فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة ; قاله ابن عطية .
قلت : وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله : احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا وعن الحسن : قدم الفضل ، وأمسك ما يبلغ . وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف . وقيل : أراد بنصيبه الكفن ، فهذا وعظ متصل ; كأنهم قالوا : لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن ونحو هذا قول الشاعر :
نصيبك مما تجمع [ من ] الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط
وقال آخر :
وهي القناعة لا تبغي بها بدلا فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
قال ابن العربي : وأبدع ما فيه عندي قول قتادة : ولا تنس نصيبك الحلال ، فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا وأحسن كما أحسن الله إليك أي أطع الله واعبده كما أنعم عليك ومنه الحديث : ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه وقيل : هو أمر بصلة المساكين قال ابن العربي : فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله وقال مالك : الأكل والشرب من غير سرف قال ابن العربي : أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء ، ويشرب العسل ، ويستعمل الشواء ، ويشرب الماء البارد وقد مضى هذا المعنى في غير موضع ولا تبغ الفساد في الأرض أي لا تعمل بالمعاصي إن الله لا يحب المفسدين .