والحواريون: جمع حوارى. وهم أنصار عيسى- عليه السلام- الذين آمنوا به وصدقوه، وأخلصوا له ولازموه، وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق، وكانوا اثنى عشر رجلا.
يقال: فلان حوارى فلان، أى: هو من خاصة أصحابه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الزبير بن العوام: «لكل نبي حوارى، وحواريي الزبير» .
وأصل الحور: شدة البياض والصفاء، ومنه قولهم في خالص لباب الدقيق: الحوارى، وفي النساء البيض الحسان: الحواريات والحوريات.
وسمى الله- تعالى- أصفياء عيسى وأنصاره بذلك لشدة إخلاصهم له، وطهارة قلوبهم من الغش والنفاق، فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص.
والأنصار: جمع نصير، وهو من ينصر غيره نصرا شديدا مؤزرا.
والمراد بنصر الله- تعالى-: نصر دينه وشريعته ونبيه الذي أرسله بالهدى، ودين الحق.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: كونوا أنصارا لله.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان داوموا وواظبوا على أن تكونوا أنصارا لدين الله في كل حال، كما كان الحواريون كذلك، عند ما دعاهم عيسى- عليه السلام- إلى نصرته والوقوف إلى جانبه.
فالكلام محمول على المعنى، والمقصود منه حض المؤمنين على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الاستجابة التامة لما يدعوهم إليه، كما فعل الحواريون مع عيسى، حيث ثبتوا على دينهم، وصدقوا مع نبيهم، دون أن تنال منهم الفتن أو المصائب.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما وجه صحة التشبيه- وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى لهم مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ.
قلت التشبيه محمول على المعنى، وعليه يصح، والمراد كونوا أنصار الله، كما كان الحواريون أنصار عيسى كذلك حين قال لهم: من أنصارى إلى الله.
فإن قلت: فما معنى قوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قلت: يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ والذي يطابقه أن يكون المعنى: من جندي متوجها إلى نصرة دين الله .
والاستفهام في قوله- تعالى-: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ للحض على نصرته والوقوف إلى جانبه.
وأضافهم- عليه السلام- إليه، باعتبارهم أنصار دعوته ودينه.
وقوله: إِلَى اللَّهِ متعلق بأنصارى، ومعنى «إلى» الانتهاء المجازى.
أى: قال عيسى للحواريين على سبيل الامتحان لقوة إيمانهم: من الجند المخلصون الذين أعتمد عليهم بعد الله- تعالى- في نصرة دينه، وفي التوجه إليه بالعبادة والطاعة وتبليغ رسالته ... ؟
فأجابوه بقولهم: نحن أنصار دين الله- تعالى- ونحن الذين على استعداد أن نبذل نفوسنا وأموالنا في سبيل تبليغ دعوته- عز وجل- ومن أجل إعلاء كلمته.
وقوله- تعالى-: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ مفرع على ما قبله، لبيان موقف قومه منه.
أى: قال الحواريون لعيسى عند ما دعاهم إلى اتباع الحق: نحن أنصار دين الله، ونحن الذين سنثبت على العهد.. أما بقية بنى إسرائيل فقد افترقوا إلى فرقتين: فرقة آمنت بعيسى وبما جاء به من عند الله- تعالى-، وفرقة أخرى كفرت به وبرسالته.
وقوله: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ بيان للنتائج التي تحققت لكل طائفة من الطائفتين: المؤمنين والكافرين.
وقوله: ظاهِرِينَ من الظهور بمعنى الغلبة، يقال: ظهر فلان على فلان، إذا تغلب عليه وقهره.
أى: كان من قوم عيسى من آمن به، ومنهم من كفر به، فأيدنا وقوينا ونصرنا الذين آمنوا به، على الذين كفروا به، فصار المؤمنون ظاهرين ومنتصرين على أعدائهم بفضله- تعالى- ومشيئته.
والمقصود من هذا الخبر حض المؤمنين في كل زمان ومكان، على الإيمان والعمل الصالح، لأن سنة الله- تعالى- قد اقتضت أن يجعل العاقبة لهم، كما جعلها لأتباع عيسى المؤمنين، على أعدائهم الكافرين.
قال بعض العلماء: وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين: إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى- عليه السلام-، هم المسيحيون إطلاقا، من استقام، ومن دخلت في عقيدته الانحرافات، وقد أيدهم الله- تعالى- على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا، كما حدث في التاريخ.
وإما أن الذين آمنوا: هم الذين أصروا على التوحيد في وجه المؤلهين لعيسى، والمثلثين وسائر النحل التي انحرفت عن التوحيد.
ومعنى: أنهم أصبحوا ظاهرين، أى: بالحجة والبرهان، أو أن التوحيد الذي هم عليه، هو الذي أظهره الله بهذا الدين الأخير- أى: دين الإسلام- وجعل له الجولة الأخيرة في الأرض. كما وقع في التاريخ.
هذا المعنى الأخير هو الأرجح والأقرب في هذا السياق .
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الصف» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.