تفسير القرطبي - Al-Qortoby   سورة  التوبة الأية 36


سورة Sura   التوبة   At-Tawba
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) ۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
الصفحة Page 192
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

قوله تعالى إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين

قوله تعالى إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم فيه ثمان مسائل :

الأولى : قوله تعالى إن عدة الشهور جمع شهر . فإذا قال الرجل لأخيه : لا أكلمك الشهور ، وحلف على ذلك فلا يكلمه حولا ، قاله بعض العلماء . وقيل : لا يكلمه أبدا . ابن العربي : وأرى إن لم تكن له نية أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر لأنه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة فعول في جمع فعل .

عند الله أي في حكم الله وفيما كتب في اللوح المحفوظ .

اثنا عشر شهرا أعربت اثنا عشر شهرا دون نظائرها ؛ لأن فيها حرف الإعراب ودليله . وقرأ العامة ( عشر ) بفتح العين والشين . وقرأ أبو جعفر ( عشر ) بجزم الشين .

في كتاب الله يريد اللوح المحفوظ . وأعاده بعد أن قال عند الله لأن كثيرا من الأشياء يوصف بأنه عند الله ، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله ، كقوله : إن الله عنده علم الساعة .

الثانية : قوله تعالى يوم خلق السماوات والأرض إنما قال يوم خلق السماوات والأرض ليبين أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك ، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السماوات والأرض ، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة . وهو معنى قوله تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا . وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها ، وتقديم المقدم في الاسم منها . والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها ، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه ، ولذلك قال عليه السلام في خطبته في حجة الوداع : أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . . . على ما يأتي بيانه . وأن الذي فعل أهل الجاهلية من جعل المحرم صفرا وصفر محرما ليس يتغير به ما وصفه الله تعالى . والعامل في " يوم " المصدر الذي هو في كتاب الله وليس يعني به واحد الكتب ؛ لأن الأعيان لا تعمل في الظروف . والتقدير : فيما كتب الله يوم خلق السماوات والأرض . و ( عند ) متعلق بالمصدر الذي هو العدة ، وهو العامل فيه . و ( في ) من قوله : في كتاب الله متعلقة بمحذوف ، هو صفة لقوله : ( اثنا عشر ) . والتقدير : اثنا عشر شهرا معدودة أو مكتوبة في كتاب الله . ولا يجوز أن تتعلق ب " عدة " لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر ( إن ) .

الثالثة : هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب ، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرا ؛ لأنها مختلفة الأعداد ، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص ، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص ، والذي ينقص ليس يتعين له شهر ، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج .

الرابعة : قوله تعالى منها أربعة حرم الأشهر الحرم المذكورة في هذه الآية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى الآخرة وشعبان ، وهو رجب مضر ، وقيل له رجب مضر لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبا . وكانت مضر تحرم رجبا نفسه ، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه : الذي بين جمادى وشعبان ورفع ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان . وكانت العرب أيضا تسميه منصل الأسنة ، روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي - واسمه عمران بن ملحان وقيل عمران بن تيم - قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاء فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا منصل الأسنة ، فلم ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناها فألقيناه .

الخامسة : قوله تعالى ذلك الدين القيم أي الحساب الصحيح والعدد المستوفى . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : " ذلك الدين " أي ذلك القضاء . مقاتل : الحق . ابن عطية : والأصوب عندي أن يكون الدين هاهنا على أشهر وجوهه ، أي ذلك الشرع والطاعة . " القيم " أي القائم المستقيم ، من قام يقوم . بمنزلة سيد ، من ساد يسود . أصله قيوم .

السادسة : قوله تعالى فلا تظلموا فيهن أنفسكم على قول ابن عباس راجع إلى جميع الشهور . وعلى قول بعضهم إلى الأشهر الحرم خاصة ؛ لأنه إليها أقرب ولها مزية في تعظيم الظلم ، لقوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز على ما نبينه . ثم قيل : في الظلم قولان : أحدهما لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال ، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور ، قاله قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري . وقال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها ، وما نسخت . والصحيح الأول ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة . وقد تقدم هذا المعنى في البقرة . الثاني : لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب ؛ لأن الله سبحانه إذا عظم شيئا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح . فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام . ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال . وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين .

السابعة : وقد اختلف العلماء من هذا المعنى فيمن قتل في الشهر الحرام خطأ ، هل تغلظ عليه الدية أم لا ، فقال الأوزاعي : القتل في الشهر الحرام تغلظ فيه الدية فيما بلغنا وفي الحرم فتجعل دية وثلثا . ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل . قال الشافعي : تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم . وروي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابن شهاب وأبان بن عثمان : من قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على ديته مثل ثلثها . وروي ذلك عن عثمان بن عفان أيضا . وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى : القتل في الحل والحرم سواء ، وفي الشهر الحرام وغيره سواء ، وهو قول جماعة من التابعين . وهو الصحيح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن الديات ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام . وأجمعوا أن الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء . فالقياس أن تكون الدية كذلك . والله أعلم .

الثامنة : خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر ، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها وإن كان منهيا عنه في كل الزمان . كما قال : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج على هذا أكثر أهل التأويل . أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم . وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : فلا تظلموا فيهن أنفسكم في الاثني عشر . وروى قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد ابن الحنفية قال : فيهن كلهن . فإن قيل على القول الأول : لم قال فيهن ولم يقل فيها ؟ وذلك أن العرب يقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة : هن وهؤلاء فإذا جاوزوا العشرة قالوا : هي وهذه ، إرادة أن تعرف تسمية القليل من الكثير . وروي عن الكسائي أنه قال : إني لأتعجب من فعل العرب هذا . وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي : خلون . وفيما فوقها خلت . لا يقال : كيف جعل بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض ، فإنا نقول : للبارئ تعالى أن يفعل ما يشاء ، ويخص بالفضيلة ما يشاء ، ليس لعمله علة ولا عليه حجر ، بل يفعل ما يريد بحكمته ، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى .

قوله تعالى وقاتلوا المشركين كافة فيه مسألة واحدة :

قوله تعالى قاتلوا أمر بالقتال . و ( كافة ) معناه جميعا ، وهو مصدر في موضع الحال . أي محيطين بهم ومجتمعين . قال الزجاج : مثل هذا من المصادر : عافاه الله عافية ، وعاقبه عاقبة . ولا يثنى ولا يجمع ، وكذا عامة وخاصة . قال بعض العلماء : كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك وجعل فرض كفاية . قال ابن عطية : وهذا الذي قاله لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعا النفر ، وإنما معنى هذه الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة ثم قيدها بقوله : كما يقاتلونكم كافة فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم . والله أعلم .

 


اتصل بنا | الملكية الفكرية DCMA | سياسة الخصوصية | Privacy Policy | قيوم المستخدم

آيــــات - القرآن الكريم


© 2022