تفسير القرطبي - Al-Qortoby   سورة  التوبة الأية 75


سورة Sura   التوبة   At-Tawba
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ۚ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) ۞ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
الصفحة Page 199
۞ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

قوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين

فيه خمس مسائل :

الأولى : قوله تعالى ومنهم من عاهد الله قال قتادة : هذا رجل من الأنصار قال : لئن رزقني الله شيئا لأؤدين فيه حقه ولأتصدقن ; فلما آتاه الله ذلك فعل ما نص عليكم ، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور . وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري - فسماه - قال للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالا . فقال عليه السلام ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم عاود ثانيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت فقال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه . فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ; فاتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، وترك ما سواهما . ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ويح ثعلبة ثلاثا . ثم نزل خذ من أموالهم صدقة . فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة ، وقال لهما : مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما فأتيا ثعلبة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا . الحديث ، وهو مشهور . وقيل : سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له . قاله ابن عبد البر : قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه ومنهم من عاهد الله . . . الآية ; إذ منع الزكاة ، فالله أعلم . وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية : فأعقبهم نفاقا في قلوبهم . . . الآية .

قلت : وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار : إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه . فلما سلم بخل بذلك فنزلت .

قلت : وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان ; حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح . قال أبو عمر : ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح ، والله أعلم . وقال الضحاك : إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير .

قلت : وهذا أشبه بنزول الآية فيهم ; إلا أن قوله فأعقبهم نفاقا يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل ، إلا أن يكون المعنى : زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات ، وهو قوله تعالى : إلى يوم يلقونه على ما يأتي .

الثانية : قال علماؤنا : لما قال الله تعالى : ومنهم من عاهد الله احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه . واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة ; فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها . و ( من ) رفع بالابتداء ، والخبر في المجرور . ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام ، أما إنه في صيغة القسم في المعنى : فإن اللام تدل عليه ، وقد أتى بلامين : الأولى للقسم ، والثانية لام الجواب ، وكلاهما للتأكيد . ومنهم من قال : إنهما لاما القسم ; والأول أظهر ، والله أعلم .

الثالثة : العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به ; قاله علماؤنا . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا . ابن العربي : والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك ، وقد سئل : إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال : يلزمه ; كما يكون مؤمنا بقلبه ، وكافرا بقلبه . قال ابن العربي : وهذا أصل بديع ، وتحريره أن يقال : عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية . أصله الإيمان والكفر .

قلت : وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ورواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به . قال أبو عمر : ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء . هذا هو الأشهر عن مالك . وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه ; كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه . والأول أصح في النظر وطريق الأثر ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجاوز الله لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد .

الرابعة : إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية . وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق . بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة ; فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه ، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه ، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة ، أو نية لكن سبقت فيه البداية ، المكتوب عليه فيها الشقاوة . نعوذ بالله من ذلك .

قلت : ومن هذا المعنى قوله عليه السلام : إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيبالله عز وجل من أمنيته أي من عاقبتها ، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغى فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى ؛ لأن أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها . وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها .

الخامسة : قوله تعالى لئن آتانا من فضله لنصدقن دليل على أن من قال : إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه ; وبه قال أبو حنيفة : وقال الشافعي : لا يلزمه . والخلاف في الطلاق مثله ، وكذلك في العتق . وقال أحمد بن حنبل : يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق ; لأن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر ; بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محل ، وهو لا يثبت في الذمة . احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك لفظ الترمذي . وقال : وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن ، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب . وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم . ابن العربي : وسرد أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شيء فلا يعول عليها ، ولم يبق إلا ظاهر الآية .

 


اتصل بنا | الملكية الفكرية DCMA | سياسة الخصوصية | Privacy Policy | قيوم المستخدم

آيــــات - القرآن الكريم


© 2022