ثم يصور- سبحانه- ما اعترى يعقوب من أحزانه على يوسف، جددها فراق بنيامين له فقال- تعالى- وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ، وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ.
وقوله «يا أسفا» من الأسف وهو أشد الحزن والتحسر على ما فات من أحداث. يقال:
أسف فلان على كذا يأسف أسفا، إذا حزن حزنا شديدا.
وألفه بدل من ياء المتكلم للتخفيف والأصل يا أسفى.
وكظيم بمعنى مكظوم، وهو الممتلئ بالحزن ولكنه يخفيه من الناس ولا يبديه لهم.
ومنه قوله- تعالى- وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أى: المخفين له، مأخوذ من كظم فلان السقاء: إذا سده على ما بداخله.
والمعنى: وبعد أن استمع يعقوب إلى ما قاله له أبناؤه، ورد عليهم ... انتابته الأحزان والهموم، وتجددت في قلبه الشجون ... فتركهم واعتزل مجلسهم وقال:
«يا أسفا على يوسف» أى: يا حزنى الشديد على يوسف أقبل فهذا أوان إقبالك.
وَابْيَضَّتْ عينا يعقوب من شدة الحزن على يوسف وأخيه حتى ضعف بصره، حيث انقلب سواد عينيه بياضا من كثرة البكاء.
فَهُوَ كَظِيمٌ أى: ممتلئ حزنا على فراق يوسف له، إلا أنه كاتم لهذا الحزن لا يبوح به لغيره من الناس.
قالوا: وإنما تأسف على يوسف دون أخويه- بنيامين وروبيل- مع أن الرزء الأحدث أشد على النفس ... لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا والخطوب ولأن حبه ليوسف كان حبا خاصا لا يؤثر فيه مرور الأعوام ... ولأن من شأن المصيبة الجديدة أن تذكر بالمصيبة السابقة عليها، وتهيج أحزانها، وقد عبر عن هذا المعنى متمم ابن نويرة في رثائه لأخيه مالك فقال:
لقد لامنى عند القبور على البكا ... رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له: إن الشجى يبعث الشجى ... فدعني، فهذا كله قبر مالك
وقال صاحب الكشاف: «فإن قلت: كيف جاز لنبي الله يعقوب أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟
قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن.
ولقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب.
وعن الحسن أنه بكى على ولد له، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب» .