قال الآلوسى ما ملخصه: «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية، أنه هو وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا وقصروا، فقص الرؤيا على أصحابه، ففرحوا واستبشروا، وظنوا أنهم سيدخلونها في عامهم هذا، وقالوا: إن رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حق، فلما تأخر ذلك قال بعض المنافقين- على سبيل التشكيك والاعتراض- والله ما حلقنا ولا قصرنا، ولا رأينا المسجد الحرام، فنزلت هذه الآية.
وقد روى عن عمر- رضى الله عنه- أنه قال نحو ذلك- على سبيل الفهم والاستكشاف- ليزداد يقينه ...
والصدق يكون بالقول ويكون بالفعل، وما في الآية صدق بالفعل، وهو التحقيق، أى حقق- سبحانه- للرسول رؤيته..» .
وقوله بِالْحَقِّ صفة لمصدر محذوف، أى: صدقا ملتبسا بالحق، أو بمحذوف على أنه حال من الرؤيا، أى: رؤيا ملتبسة بالحق.
والمعنى: والله لقد أرينا رسولنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم الرؤيا الصادقة التي لا تتخلف، ولا يحوم حولها ريب أو شك، وحققنا له ما اشتملت عليه هذه الرؤيا من بشارات سارة، وعطايا كريمة، على حسب ما اقتضته حكمتنا وإرادتنا.
وقوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ.. جواب لقسم محذوف، وقوله: آمِنِينَ وما بعده، حال من فاعل لَتَدْخُلُنَّ.. أى: والله لتدخلن- أيها المؤمنون- المسجد الحرام في عامكم المقبل إن شاء الله، حالة كونكم آمنين من كل فزع، وحالة كونكم بعضكم يحلق شعر رأسه كله، وبعضكم يكتفى بقص جزء منه، وحالة كونكم لا تخافون أذى المشركين بعد ذلك.
وقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ فيه ما فيه من الإشعار بأن الرؤيا مع صدقها، تحقيقها موكول إلى مشيئة الله- تعالى- وإلى قدرته، لا إلى أحد سواه، وفيه ما فيه من تعليم الناس وإرشادهم إلى أنهم يجب عليهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه عند إرادتهم لفعل من الأفعال، كما قال- تعالى- وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ...
قال بعض العلماء: «إن الله- تعالى- استثنى فيما يعلم، ليستثني الخلق فيما لا يعلمون.
ويرى بعضهم: أن الاستثناء هنا لتحقيق الخبر وتأكيده.
واستدل بعضهم بهذه الآية على أن الحلق غير متعين في النسك، بل يجزئ عنه التقصير، إلا أن الحلق أفضل، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: يا رسول الله، والمقصرين، قال اللهم اغفر للمحلقين، قالوا:
يا رسول الله، والمقصرين، قال اللهم اغفر للمحلقين.. ثم قال بعد الثالثة: والمقصرين» .
واستدل بها- أيضا- على أن التقصير للرأس دون اللحية، ودون سائر شعر البدن، إذ الظاهر أن المراد: ومقصرين شعر رءوسكم» .
وقوله: لا تَخافُونَ تأكيد وتقرير لقوله آمِنِينَ أى: آمنين عند دخولكم مكة للعمرة ولا تخافون بعد إتمامها، لأن عناية الله- تعالى- ورعايته معكم ...
وقوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً بيان للحكمة في تأخير دخولهم مكة عام الحديبية، وتمكينهم من دخولها في العام الذي يليه.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ ... أى: والله لقد حقق الله- تعالى- لرسوله رؤياه في دخول مكة، ولكن في الوقت الذي يشاؤه ويختاره وتقتضيه حكمته، لأنه- تعالى- علم ما لم تعلموه أنتم من أن المصلحة في عدم دخولكم مكة في عام صلح الحديبية، وأن هذا الصلح هو خير لكم من دخولها، لما يترتب عليه من منافع كثيرة لكم، وقد جعل- سبحانه- بفضله وإحسانه مِنْ دُونِ ذلِكَ أى: من قبل دخولكم مكة، وطوافكم بالمسجد الحرام فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر الذي خرجتم منه بالغنائم الوفيرة، أو فتح خيبر ومعه صلح الحديبية، الذي قال فيه الزهري لا فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية ...
هذا، وقد بسط الإمام ابن كثير ما أصابه المسلمون بعد صلح الحديبية من خيرات فقال ما ملخصه: «ورجع الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية في ذي القعدة من السنة السادسة.. ثم خرج في المحرم من السنة السابعة إلى خيبر، ففتحها الله- تعالى- عليه ...
فلما كان في ذي القعدة من السنة السابعة، خرج إلى مكة معتمرا، هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدى ... وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها. فدخلها وبين يديه أصحابه يلبون، وعبد الله بن رواحه آخذ بزمام ناقة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وينشد ويقول:
خلوا بنى الكفار عن سبيله إنى شهيد أنه رسوله وخرج المشركون من مكة لكي لا يروا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، أما النساء والأطفال فقد جلسوا على الطرق ينظرون إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإلى المؤمنين..
ومكث الرسول وأصحابه بمكة ثلاثة أيام اعتمر خلالها هو وأصحابه، ثم عادوا إلى المدينة» .