روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات متقاربة في معناها، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن البراء بن عازب قال: مات ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر. فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها قال: فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية وعن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله، أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر «لما نزل تحريم الخمر» فنزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الآية.
وروى الإمام أحمد من حديث أبى هريرة أنه بعد أن نزل قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآيات، قال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر وقد جعله الله رجسا ومن عمل الشيطان؟
فأنزل الله- تعالى-: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية.
قال القرطبي: وهذه الآية وتلك الأحاديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح، لأن المباح مستوى الطرفين بالنسبة إلى الشرع، وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله- تعالى- وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم، فرفع الله التوهم بقوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية.
وقال الآلوسى: وقيل إن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار».
وقوله- تعالى- فِيما طَعِمُوا أى: ذاقوا، مأخوذ من الطعم- بالفتح- وهو تذوق الشيء والتلذذ به، سواء أكان مأكولا أم مشروبا وهو المراد هنا.
قال القرطبي: وأصل هذه الكلمة في الأكل. يقال: طعم الطعام وشرب الشراب لكن قد تجوز في ذلك فيقال: لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما» .
والمعنى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أى: حرج أو إثم فِيما طَعِمُوا أى فيما تناولوه من خمر أو ما يشبهها من محرمات قبل أن يحرمها الله- تعالى- وكذلك لا إثم ولا حرج على من مات قبل التحريم.
وقوله: إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تحريض للمؤمنين على الازدياد من الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
أى: إذا ما اتقوا الله وخافوه وتلقوا أوامره بالقبول، وثبتوا على الإيمان، وأكثروا من الأعمال الصالحات.
وقوله: ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا معطوف على ما قبله.
أى: ثم استمروا على تقواهم وامتلاء قلوبهم بخشية الله، والإيمان الحق به- سبحانه- فتكرير التقوى والإيمان هنا لبيان أنه يجب استمرارهم ومواظبتهم على ذلك، مع تمسكهم بما يقتضيه الإيمان والتقوى من فعل الخير وابتعاد عن الشر.
وقوله: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا معطوف على ما قبله- أيضا- لتأكيد معنى الاستمرار على هذه التقوى طول مدة حياتهم مع إحسانهم إلى أنفسهم بالإكثار من العمل الصالح، وإلى غيرهم بما يستطيعونه من إسداء الخير إليه.
وقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الحض على الإيمان والتقوى والإحسان، ومدح المتمسكين بتلك الصفات الحميدة.
أى: والله- تعالى- يحب المحسنين إلى أنفسهم بإلزامها بالوقوف عند حدود الله، والاستجابة له فيما أمر أو نهى أو أحل أو حرم برغبة ومسارعة، وإلى غيرهم بمديد العون إليهم.
فالآية الكريمة من مقاصدها بيان جانب من مظاهر رحمة الله بعباده، ورأفته بهم حيث بين لهم: أن من شرب الخمر أو لعب الميسر أو فعل ما يشبههما من محرمات، ثم مات قبل أن ينزل الأمر بتحريم هذه الأشياء فإن الله- تعالى- لا يؤاخذه على ذلك. لأن المؤاخذة على الفعل تبدأ من وقت تحريمه لا من قبل تحريمه.
وكذلك الحال بالنسبة لمن وقع في هذه الأشياء قبل أن تحرم فإن الله لا يؤاخذه عليها، وإنما يؤاخذه عليها بعد نزول تحريمها وهذا من فضل الله على عباده، ورحمته بهم.
هذا، وقد تعددت أقوال المفسرين حول مسألتين تتعلقان بهذه الآية الكريمة.
أما المسألة الأولى فهي: كيف شرط الله في رفع الجناح أى الإثم عن المطعومات والمشروبات الإيمان والتقوى، مع أن الجناح مرفوع عن المباح من هذه الأشياء حتى عن الكافرين؟
وقد قالوا في الإجابة عن ذلك: إن تعليق نفى الجناح أى الإثم بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها فإن نفى الإثم عن الذي يتناول المباح قبل أن يحرم لا يشترط بشرط، وإنما تعليق نفى الجناح بهذه الأحوال- وهي التقوى والإيمان- وارد على سبيل المدح لهم، والثناء عليهم والدلالة على أنهم جديرون بهذه الصفات، ولإدخال الطمأنينة على قلوبهم حتى يوقنوا بأن من تعاطى شيئا من المحرمات قبل تحريمها فلا يؤاخذه الله على ذلك، وإنما يؤاخذه إذا تعاطاها بعد تحريمها.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: «قيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة:
يا رسول الله!! كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر؟ فنزلت الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ.. إلخ يعنى أن المؤمنين لا جناح عليهم في أى شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم، ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا، على معنى: أن أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. ومثاله أن يقال لك: هل على زيد جناح فيما فعل؟ فتقول: وقد علمت أن ذلك أمر مباح: ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم، وكان مؤمنا محسنا. تريد: أن زيدا تقى مؤمن محسن، وأنه غير مؤاخذ بما فعل».
وقال أبو السعود ما ملخصه: ما عدا التقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة، لا دخل لها في انتفاء الجناح. وإنما ذكرت في حيز إِذا شهادة باتصاف الذين سألوا عن حالهم بها، ومدحا لهم بذلك، وحمدا لأحوالهم. فكأنه قيل: ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى: مع مالهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال، وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك، ولو حرما في عصرهم لا لاتقوهما بالمرة».
وأما المسألة الثانية التي كثرت أقوال المفسرين فيها فهي: تكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح. ومرة مع الإيمان ومرة مع الإحسان؟
وقد ذكر القرطبي في ذلك أربعة أقوال فقال:
الأول: أنه ليس في ذكر التقوى تكرار، والمعنى: اتقوا شربها وآمنوا بتحريمها، أو دام اتقاؤهم وإيمانهم، أو على معنى إضافة الإحسان إلى الاتقاء.
والثاني: اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم وأحسنوا العمل.
الثالث: اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانا، والمعنى الثالث، ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أى تنفلوا.
الرابع: قال ابن جرير: الاتقاء الأول: هو الاتقاء بتلقى أمر الله بالقبول والتصديق، والدينونة به العمل. والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث: الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل».
والذي يبدو لنا أن ما قاله ابن جرير أقرب إلى الصواب، وأن تكرير التقوى إنما هو لتأكيد وجوب امتلاء قلب المؤمن بها، واستمراره على ذلك حتى يلقى الله. فإن المؤمن بمداومته على خشيته- سبحانه- يتدرج من الكمال إلى الأكمل حتى يصل في إيمانه وتقواه إلى مرتبة الإحسان التي ترفعه إلى أعلى عليين، والتي عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
ولقد بين لنا القرآن في مواطن كثيرة أن المؤمن يقوى إيمانه ويزداد، بكثرة تدبره ما أنزله الله من شرائع وهدايات. ومن ذلك قوله- تعالى- وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ.
وقال تعالى- وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد طمأنت المؤمنين إلى أن الله- تعالى- لن يؤاخذهم بما تعاطوه من محرمات قبل تحريمها. وأن الواجب عليهم أن يستمروا على مراقبتهم له، وخشيتهم منه حتى يلقوه- عز وجل-.
وبعد أن حذر الله- تعالى- المؤمنين من تعاطى المنكرات كالخمر والميسر وبين لهم حكم من مات قبل تحريم هذه الأشياء بعد كل ذلك بين- سبحانه- بشيء من التفصيل بعض الأحكام التي تتعلق بالصيد فقال تعالى-: