ثم أكد- سبحانه- وجوب هذا الانتهاء بأن أمر بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا.
أى: اجتنبوا- أيها المؤمنون- هذه الرذائل وانتهوا عنها فقد بينت لكم مضارها، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في جميع ما أمرا به ونهيا عنه وَاحْذَرُوا مخالفتهما، لأن مخالفة أوامرهما تؤدى إلى الحسرة والخسران.
وأمر- سبحانه- بطاعته وبطاعته رسوله مع أن طاعة رسوله طاعة له- سبحانه- لتأكيد الدعوة إلى هذه الطاعة، ولتكريم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جعلت طاعته مجاورة لطاعة الله- تعالى-.
وقوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تأكيد للتحذير السابق وتنبيه إلى سوء عاقبة العاصين لأمر الله ورسوله.
وجواب الشرط محذوف والتقدير: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول- أيها المؤمنون- واحذروا مخالفة أمرهما، فإن توليتم وأعرضتم عن طاعتهما، فقد وقعتم في الخطيئة وستعاقبون عليها عقابا شديدا، واعلموا أنه ليس على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم سوى التبليغ الواضح البين عن الله- تعالى- أما الحساب والجزاء، والثواب والعقاب فمن الله وحده.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أنواعا من التأكيدات، وألوانا من التهديدات التي تدعو إلى اجتناب الخمر والميسر اجتنابا تاما وتركهما تركا لا عودة بعده إليهما.
وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى بقوله: أكد- سبحانه- تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد:
منها: تصدير الجملة بإنما.
ومنها: قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله- صلى الله عليه وسلم «شارب الخمر كعابد الوثن» .
ومنها: أنه جعلهما رجسا كما قال- تعالى- فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان، لا يأتى منه إلا الشر البحت.
ومنها: أنه أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب.
ومنها: أنه جعل الاجتناب من الفلاح. وإذا كان الاجتناب فلاحا، كان الارتكاب خيبة وخسرانا.
ومنها: أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال- وهو وقوع التعادي والتباغض- وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة.
ومنها: قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فهو من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم باقون على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟؟؟» .
هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- أن هذه الآيات الكريمة هي آخر ما نزل في القرآن لتحريم الخمر تحريما قاطعا لأن التعبير بالانتهاء والأمر به فيه إشارة إلى تمهيدات سابقة للتحريم.
قال القرطبي: تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة. فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأن الخمر قوله- تعالى- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أى: في تجارتهم. فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس. وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة فيما يشغلنا عن الصلاة وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية. فصارت حراما عليهم حتى صار بعضهم يقول: ما حرم الله شيئا أشد من الخمر» .
وأخرج عبد بن حميد عن الربيع أنه قال: لما نزلت آية البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ، ثم نزلت آية النساء: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فقال صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ، ثم نزلت آية المائدة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فحرمت عند ذلك.
ولما سمع عمر قوله- تعالى- فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: انتهينا يا رب ولا شك في أن تدرج القرآن في تحريم الخمر يدل دلالة واضحة على رحمة الله- تعالى- بعباده المؤمنين وتربية حكيمة حتى يقلعوا عما تعودوه بسهولة ويسر وذلك لأن شرب الخمر كان من العادات المتأصلة في النفوس ويكفى للدلالة على حب العرب لها قول أنس بن مالك: حرمت الخمر ولم يكن للعرب عيش أعجب منها. وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر» .
ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يحبونه ويشتهونه، يمثل اسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأمر الله- تعالى- فعند ما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها في الطرقات، بل وحطموا الأوانى التي كانت توضع فيها الخمر.
أخرج البخاري عن أنس قال: كنت ساقى القوم في منزل أبى طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ- أى: نقيع البسر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادى «ألا إن الخمر قد حرمت» .
قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها. قال: فخرجت فهرقتها فجرت في سكك المدينة وأخرج ابن جرير عن قتادة عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبى طلحة، وأبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبى دجانة حتى مالت رءوسهم من
خليط بسر وتمر، فسمعنا مناديا ينادى: إن الخمر قد حرمت. قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا ثم خرجنا إلى المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
فقال رجل لقتادة: سمعته من أنس بن مالك؟ قال: نعم وقال رجل لأنس أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. وحدثني من لم يكذب: والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب .
وأخرج ابن جرير- أيضا- عن أبى بريدة عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شراب لنا، ونحن نشرب الخمر حلا، إذ قمت حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. الآيات. فجئت إلى أصحابى فقرأتها عليهم، إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضا وبقي بعض الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا، كما يفعل الحجام. ثم صبوا ما في باطيتهم، فقالوا:
انتهينا ربنا، انتهينا ربنا» .
وهكذا ترى أن قوة الإيمان التي غرسها الإسلام في نفوس أتباعه عن طريق تعاليمه الحكيمة وتربيته السامية. قد تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع إلفا شديدا.
2- أن كلمة خمر اسم لما خامر العقل وغطاه من الأشربة المسكرة، سواء كانت من عصير العنب، أم من الشعير، أم من التمر، أم من غير ذلك وكلها سواء في التحريم قل المشروب منها أو كثر، سكر شاربها أو لم يسكر، وأن على الشارب حد الشرب في الجميع.
وبهذا القول قال جمهور العلماء: ومن أدلتهم النقلية ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال:
خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر وهي خمسة أشياء: «العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل» .
وأخرج أيضا عن عائشة قالت: «سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن التبع- وهو نبيذ العسل- وكانأهل اليمن يشربونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل ما أسكر فهو حرام» .
وأخرج كذلك عن أنس قال: «حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد- يعنى بالمدينة- خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر» .
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في أن ما أسكر من هذه الأشربة المأخوذة من التمر أو الحنطة أو الشعير أو العنب يسمى خمرا.
ومن أدلتهم العقلية أصل الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره.
ويرى الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبى ليلى:
أن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط. أما المسكر من غيره كالشراب الذي من التمر والشعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذا.
ومن حججهم أن الخمر حرمت ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط. وما وجد فيه مخامرة للعقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا: لأن اللغة لا تثبت من طريق القياس.
وقد ورد عن ابن عمر أنه قال: «حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء» .
ولقد كان بالمدينة من المسكرات نقيع التمر والبسر، فدل على أن ابن عمر- وهو عربي- ما كان يرى أن اسم الخمر يتناول هذين.
ويقول الأحناف ومن وافقهم: إن الأحاديث التي استشهد بها الجمهور على أن الخمر اسم لكل مسكر من عصير العنب أو غيره هذه الأحاديث لبيان الحكم الشرعي، والحرمة بالقياس لتحقيق علة الحرمة وهي الإسكار في القدر المسكر من هذه الأشياء.
وقد ابتنى على هذا الخلاف بين الجمهور والأحناف أحكام أخرى تتعلق بنجاسة هذه الأشياء، وبوجوب إقامة الحد على شاربها.. إلخ وتفصيل هذه الأحكام يرجع فيه إلى كتب الفقه وأصوله.
هذا، وقد رجح المحققون من العلماء ما ذهب إليه الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم.
قال ابن العربي: وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها والصحيح ما رواه الأئمة أن أنسا قال: «حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا القليل، وعامة خمرها البسر والتمر» .
واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم- أى: أوانى الخمر- وبادروا إلى الامتثال لاعتقادهم أن ذلك كله خمر - أى: وأقرهم رسول الله على ذلك.
وقال الآلوسى: وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأى اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده فهو حرام، وقليله ككثيره، ويحد شاربه ويقع طلاقه، ونجاسته غليظة. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع- وهو نبيذ العسل- فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» .
وروى أبو داود: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر» .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . والأحاديث متضافرة على ذلك.
ولعمري إن اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر، ورغبتهم فيها، فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير. وقد وضعوا لها أسماء- كالعنبرية والإكسير- ونحوهما، ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة، وتبيح شربها للأمة- وهيهات هيهات- فالأمر وراء ما يظنون وإنا لله وإنا إليه راجعون .
3- قال القرطبي ما ملخصه: «فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها.
وخالفهم في ذلك- ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعى. وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة وأن المحرم إنما هو شربها.
والصحيح ما عليه الجمهور لأن وصفها بأنها رِجْسٌ يدل على نجاستها فإن الرجس في اللسان النجاسة.
وقوله: فَاجْتَنِبُوهُ يقتضى الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في هذا الباب.
روى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، - أى قربة خمر-
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل علمت أن الله حرمها» قال: لا. قال: فسار رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بم ساررته» ؟ قال: أمرته أن يبيعها، فقال: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» .
ثم قال القرطبي: وهذه الآيات تدل على أن كل لهو دعا قليله إلى كثيره، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، ووجب أن يكون حراما مثله .
4- هذه الآيات الكريمة تدل على تأكيد تحريم الخمر وما ذكر معها من رذائل، كما تدل على تحريم ما تؤدى إليه من مفاسد ومضار، وما يحيق بمرتكبها من سوء عاقبة.
وقد ساق ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث في هذا المعنى، ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنت الخمر على عشرة أوجه: «لعنت الخمر بعينها، وشاربها، وساقيها وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها» .
وقال ابن وهب- قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى» .
وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «صديد أهل النار» .
هذا جانب من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة، ومن الأحاديث التي وردت في حرمة الخمر وفي سوء مصير شاربها.
وقد أتبع- سبحانه- ذلك ببيان حكم من شربها ومات قبل أن ينزل تحريمها فقال- تعالى-: