قال القرطبي: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ.. هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف، والاستجابة:
الإجابة.. قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أى: فلم يجبه عند ذاك مجيب.
وكان الإمام القرطبي يرى أن السين والتاء في قوله: «استجيبوا» زائدتان.
ولعل الأحسن من ذلك أن تكون السين والتاء للطلب، لأن الاستجابة هي الإجابة بنشاط وحسن استعداد.
وقوله لِما يُحْيِيكُمْ أى لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة، التي توصلكم متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا، وإلى السعادة التي ليس بعدها سعادة في الآخرة.
وهذا المعنى الذي ذكرناه لقوله لِما يُحْيِيكُمْ أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن، أو الجهاد، أو العلم ... إلخ.
وذلك، لأن أعمال البر والخير والطاعة تشمل كل هذا.
والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله حق الإيمان، اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ عن طواعية واختيار، ونشاط وحسن استعداد إِذا دَعاكُمْ الرسول- صلى الله عليه وسلم- لِما يُحْيِيكُمْ أى: إلى ما يصلح أحوالكم، ويرفع درجاتكم، من الأقوال النافعة، والأعمال الحسنة، التي بالتمسك بها تحيون حياة طيبة: وتظفرون بالسعادتين:
الدنيوية والأخروية.
والضمير في قوله دَعاكُمْ يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله، ولأن في الاستجابة له استجابة لله- تعالى- قال- سبحانه-: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً .
وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله، وبعث لهم على مواصلة الطاعة له- سبحانه-.
وقوله: يَحُولُ من الحول بين الشيء والشيء، بمعنى الحجز والفصل بينهما.
قال الراغب: أصل الحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول: وباعتبار الانفصال قيل حال بيني وبينك كذا ...
أى فصل..» .
هذا، وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان:
أما القول الأول فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه- كما يقول ابن جرير-: أنه- سبحانه- أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر، أو أن يعي به شيئا، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته، وذلك أن الحول بين الشيء والشيء إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز- جل ثناؤه- بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل، وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك قول من قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان.
وقول من قال: يحول بينه وبين عقله. وقول من قال: يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.. فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له، .
وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى.
وقال ابن كثير- بعد أن لخص القول الذي رجحه ابن جرير-: وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفها كيف شاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك) .
وروى: الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه» .
أما القول الثاني فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه- كما يقول الزمخشري- «أنه- سبحانه- يميت المرء فتفوته الفرصة التي هو واجدها، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله، ورده سليما كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله، .
أو- كما يقول الفخر الرازي- بعبارة أوضح: «أن المراد أنه- تعالى- يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه، فإن الأجل يحول دون الأمل. فكأنه قال: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء، فإن ذلك غير موثوق به،
وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأمانى الحاصلة في القلب، لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم: سال الوادي، .
والذي نراه أن القول الثاني أولى بالقبول، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة للحق الذي دعاهم إليه رسوله صلى الله عليه وسلم والذي باتباعه يحيون حياة طيبة، وتذكيرهم بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب، كما قال- تعالى- في ختامها وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
وليست مسوقة لإثبات قدرة الله، وأنه أملك لقلوب عباده منهم: وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء.
فالمعنى الذي ذكره ابن جرير- وتابعه عليه ابن كثير وغيره، معنى وجيه في ذاته، إذ لا ينكر أحد أن الله مقلب القلوب ومالكها.. ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذي ذكره الزمخشري والرازي، لأن الآية التي معنا والتي بعدها صريحتان في دعوة المؤمنين إلى الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين منهم خاصة.
والمعنى الإجمالى للآية الكريمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ بعزيمة صادقة، وسرعة فائقة، إِذا دَعاكُمْ الرسول- صلى الله عليه وسلم- لِما يُحْيِيكُمْ أى لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة وَاعْلَمُوا علما يقينا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أى يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا ومتعها: فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا، وسيجمع كذا في المستقبل، وسيحصل على كذا قريبا..
ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه.. فبادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت.
وقوله: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تذبيل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة. والضمير في قوله وَأَنَّهُ يعود إلى الله تعالى- أو هو ضمير الشأن. أى: وأنه- سبحانه- إليه وحده ترجعون لا إلى غيره، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم، ويجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جمعت بين الترغيب. في العمل الصالح بسرعة ونشاط، وبين الترهيب من التكاسل والغفلة عن طاعة الله.