قوله تعالى : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ( إذا ) في موضع نصب على الظرف والعامل فيها : ( قالوا ) وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر . قال الجوهري : ( إذا ) اسم يدل على زمان مستقبل ، ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة ، تقول : أجيئك إذا احمر البسر ، وإذا قدم فلان . والذي يدل على أنها اسم وقوعها موقع قولك : آتيك يوم يقدم فلان ، فهي ظرف وفيها معنى المجازاة . وجزاء الشرط ثلاثة : الفعل والفاء وإذا ، فالفعل قولك : إن تأتني آتك . والفاء : إن تأتني فأنا أحسن إليك . وإذا كقوله تعالى : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون . ومما جاء من المجازاة بإذا في الشعر قول قيس بن الخطيم :
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب
فعطف " فنضارب " بالجزم على " كان " لأنه مجزوم ، ولو لم يكن مجزوما لقال : فنضارب ، بالنصب . وقد تزاد على " إذا " " ما " تأكيدا ، فيجزم بها أيضا ، ومنه قول الفرزدق :
فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم وكان إذا ما يسلل السيف يضرب
قال سيبويه : والجيد ما قال كعب بن زهير :
وإذا ما تشاء تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا
يعني أن الجيد ألا يجزم بإذا ، كما لم يجزم في هذا البيت . وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة : خرجت فإذا زيد ، ظرف مكان ، لأنها تضمنت جثة . وهذا مردود ; لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد ، فإنما تضمنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان ، ومنه قولهم : " اليوم خمر وغدا أمر " فمعناه وجود خمر ووقوع أمر .
قوله : ( قيل ) من القول وأصله قول ، نقلت كسرة الواو إلى القاف فانقلبت الواو ياء . ويجوز : ( قيل لهم ) بإدغام اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين ; لأن الياء حرف مد ولين . قال الأخفش : ويجوز ( قيل ) بضم القاف والياء . وقال الكسائي : ويجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله ، وهي لغة قيس ، وكذلك جيء وغيض وحيل وسيق وسيء وسيئت . وكذلك روى هشام عن ابن عباس ، ورويس عن يعقوب . وأشم منها نافع سيء وسيئت خاصة . وزاد ابن ذكوان : حيل وسيق ، وكسر الباقون في الجميع . فأما هذيل وبنو دبير من أسد وبني فقعس فيقولون : " قول " بواو ساكنة .
قوله : لا تفسدوا " لا " نهي . والفساد ضد الصلاح ، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها . فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا وهو فاسد وفسيد . والمعنى في الآية : لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله ، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقيل : كانت الأرض قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها الفساد ، ويفعل فيها بالمعاصي ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الأرض . فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، كما قال في آية أخرى : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها .
قوله : في الأرض الأرض مؤنثة ، وهي اسم جنس ، وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة ، ولكنهم لم يقولوا . والجمع أرضات ; لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم : عرسات . ثم قالوا أرضون فجمعوا بالواو والنون ، والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة ، ولكنهم جعلوا الواو والنون عوضا من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها ، وربما سكنت . وقد تجمع على أروض . وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون : أرض وآراض ، كما قالوا : أهل وآهال . والأراضي أيضا على غير قياس ، كأنهم جمعوا آرضا . وكل ما سفل فهو أرض . وأرض أريضة ، أي زكية بينة الأراضة . وقد أرضت بالضم ، أي زكت . قال أبو عمرو : نزلنا أرضا أريضة ، أي معجبة للعين ، ويقال : لا أرض لك ، كما يقال : لا أم لك . والأرض : أسفل قوائم الدابة ، قال حميد يصف فرسا :
ولم يقلب أرضها البيطار ولا لحبليه بها حبار
أي أثر والأرض : النفضة والرعدة . روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال : زلزلت الأرض بالبصرة ، فقال ابن عباس : والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرض ؟ أي أم بي رعدة ، وقال ذو الرمة يصف صائدا :
إذا توجس ركزا من سنابكها أو كان صاحب أرض أو به الموم
والأرض : الزكام . وقد آرضه الله إيراضا ، أي أزكمه فهو مأروض . وفسيل مستأرض ، وودية مستأرضة ( بكسر الراء ) وهو أن يكون له عرق في الأرض ، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب . والإراض ( بالكسر ) : بساط ضخم من صوف أو وبر . ورجل أريض ، أي متواضع خليق للخير . قال الأصمعي يقال : هو آرضهم أن يفعل ذلك ، أي أخلقهم . وشيء عريض أريض إتباع له ، وبعضهم يفرده ويقول : جدي أريض أي سمين .
قوله : ( نحن ) أصل ( نحن ) نحن ، قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء ، قاله هشام بن معاوية النحوي . وقال الزجاج : نحن لجماعة ، ومن علامة الجماعة الواو ، والضمة من جنس الواو ، فلما اضطروا إلى حركة ( نحن ) لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة . قال : لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل : أولئك الذين اشتروا الضلالة وقال محمد بن يزيد : ( نحن ) مثل قبل وبعد ; لأنها متعلقة بالإخبار عن اثنين وأكثر ، ف " أنا " للواحد " و ( نحن ) للتثنية والجمع ، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله : نحن قمنا ، قال الله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم والمؤنث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر ، تقول المرأة : قمت وذهبت ، وقمنا وذهبنا ، وأنا فعلت ذاك ، ونحن فعلنا . هذا كلام العرب فاعلم .
قوله تعالى : ( مصلحون ) اسم فاعل من أصلح . والصلاح : ضد الفساد . وصلح الشيء ( بضم اللام وفتحها ) لغتان ، قال ابن السكيت . والصلوح ( بضم الصاد ) مصدر صلح ( بضم اللام ) ، قال الشاعر :
فكيف بإطراقي إذا ما شتمتني وما بعد شتم الوالدين صلوح
وصلاح من أسماء مكة . والصلح ( بكسر الصاد ) : نهر .
وإنما قالوا ذلك على ظنهم ; لأن إفسادهم عندهم إصلاح ، أي أن ممالأتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين . قال ابن عباس وغيره .