تفسير القرطبي - Al-Qortoby   سورة  البقرة الأية 78


سورة Sura   البقرة   Al-Baqara
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)
الصفحة Page 12
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)

قوله تعالى : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : ومنهم أميون أي من اليهود . وقيل : من اليهود والمنافقين أميون ، أي من لا يكتب ولا يقرأ ، واحدهم أمي ، منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادة أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها ، ومنه قوله عليه السلام : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الحديث . وقد قيل لهم إنهم أميون لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب ، عن ابن عباس . وقال أبو عبيدة : إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم ، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب ، فكأنه قال : ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب . عكرمة والضحاك : هم نصارى العرب . وقيل : هم قوم من أهل الكتاب ، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين . علي رضي الله عنه : هم المجوس .

قلت : والقول الأول أظهر ، والله أعلم .

لثانية : قوله تعالى : لا يعلمون الكتاب إلا أماني " إلا " ها هنا بمعنى لكن ، فهو استثناء منقطع ، كقوله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن . وقال النابغة :

حلفت يمينا غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب

وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ( إلا أماني ) خفيفة الياء ، حذفوا إحدى الياءين استخفافا . قال أبو حاتم : كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد ، فلك فيه التشديد والتخفيف ، مثل أثافي وأغاني وأماني ، ونحوه . وقال الأخفش : هذا كما يقال في جمع مفتاح : مفاتيح ومفاتح ، وهي ياء الجمع . قال النحاس : الحذف في المعتل أكثر ، كما قال الشاعر [ هو ذو الرمة ] :

وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع

والأماني جمع أمنية وهي التلاوة ، وأصلها أمنوية على وزن أفعولة ، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أمنية ، ومنه قوله تعالى : إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته . وقال كعب بن مالك : :

تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر

وقال آخر :

تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل

والأماني أيضا الأكاذيب ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ما تمنيت منذ أسلمت ، أي ما كذبت . وقول بعض العرب لابن دأب وهو يحدث : أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته ؟ أي افتعلته . وبهذا المعنى فسر ابن عباس ومجاهد أماني في الآية . والأماني أيضا ما يتمناه الإنسان ويشتهيه . قال قتادة : إلا أماني يعني أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم . وقيل : الأماني التقدير ، يقال : مني له أي قدر ، قاله الجوهري ، وحكاه ابن بحر ، وأنشد قول الشاعر :

لا تأمنن وإن أمسيت في حرم حتى تلاقي ما يمني لك الماني

أي يقدر لك المقدر .

الثالثة : قوله تعالى : وإن هم إلا يظنون إن بمعنى ما النافية ، كما قال تعالى : إن الكافرون إلا في غرور . ويظنون يكذبون ويحدثون ، لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون ، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرءون به .

فائدة : قال أبو بكر الأنباري : وقد حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظن علما وشكا وكذبا ، وقال : إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين ، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك ، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب ، قال الله عز وجل وإن هم إلا يظنون أراد إلا يكذبون .

الرابعة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : نعت الله تعالى أحبارهم بأنهم يبدلون ويحرفون فقال وقوله الحق : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم الآية . وذلك أنه لما درس الأمر فيهم ، وساءت رعية علمائهم ، وأقبلوا على الدنيا حرصا وطمعا ، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم ، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها ، وألحقوا ذلك بالتوراة ، وقالوا لسفهائهم هذا من عند الله ، ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها . وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ، وهم العرب ، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا . وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا : لا يضرنا ذنب ، فنحن أحباؤه وأبناؤه ، تعالى الله عن ذلك ! وإنما كان في التوراة " يا أحباري ويا أبناء رسلي " فغيروه وكتبوا " يا أحبائي ويا أبنائي " فأنزل الله تكذيبهم : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم . فقالت : لن يعذبنا الله ، وإن عذبنا فأربعين يوما مقدار أيام العجل ، فأنزل الله تعالى : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا قال ابن مقسم : يعني توحيدا ، بدليل قوله تعالى : إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا يعني لا إله إلا الله فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون ثم أكذبهم فقال : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . فبين تعالى أن الخلود في النار والجنة إنما هو بحسب الكفر والإيمان ، لا بما قالوه .

 


اتصل بنا | الملكية الفكرية DCMA | سياسة الخصوصية | Privacy Policy | قيوم المستخدم

آيــــات - القرآن الكريم


© 2022