قوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور أي واذكر يوم ، أو ذكرهم يوم ينفخ في الصور . ومذهب الفراء أن المعنى : وذلكم يوم ينفخ في الصور ; وأجاز فيه الحذف والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل قال مجاهد : كهيئة البوق . وقيل : هو البوق بلغة أهل اليمن وقد مضى في ( الأنعام ) بيانه وما للعلماء في ذلك . ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لما فرغ من خلق السماوات خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخة . قلت : يا رسول الله ما الصور ؟ قال : قرن - والله - عظيم ، والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات : النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث والقيام لرب العالمين وذكر الحديث . ذكره علي بن معبد والطبري والثعلبي وغيرهم ، وصححه ابن العربي . وقد ذكرته في كتاب ( التذكرة ) وتكلمنا عليه هنالك ، وأن الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث ، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لا زمان لهما ; أي فزعوا فزعا ماتوا منه ; أو إلى نفخة البعث . وهو اختيار القشيري وغيره ; فإنه قال في كلامه على هذه الآية : والمراد النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون : من بعثنا من مرقدنا ; ويعاينون من الأمور ما يهولهم ويفزعهم ; وهذا النفخ كصوت البوق لتجتمع الخلق في أرض الجزاء . قاله قتادة وقال الماوردي : ويوم ينفخ في الصور هو يوم النشور من القبور ، قال : وفي هذا الفزع قولان : أحدهما أنه الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم : فزعت إليك في كذا : إذا أسرعت إلى ندائك في معونتك . والقول الثاني : إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحزن ; لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا . وهذا أشبه القولين .
قلت : والسنة الثابتة من حديث أبى هريرة وحديث عبد الله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث ; خرجهما مسلم وقد ذكرناهما في كتاب ( التذكرة ) وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان ; قال الله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة . وقد روى ابن المبارك عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بين النفختين أربعون سنة ، الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيي الله بها كل ميت فإن قيل : فإن قوله تعالى : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة إلى أن قال : فإنما هي زجرة واحدة وهذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث . قيل له : ليس كذلك ، وإنما المراد بالزجرة : النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم ; كذلك قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن زيد وغيرهم . قال مجاهد : هما صيحتان أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله ، وأما الأخرى فتحيي كل شيء بإذن الله . وقال عطاء : ( الراجفة ) : القيامة و ( الرادفة ) : البعث . وقال ابن زيد : ( الراجفة ) : الموت و ( الرادفة ) : الساعة . والله أعلم . إلا من شاء الله اختلف في هذا المستثنى من هم . ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون . إنما يصل الفزع إلى الأحياء ; وهو قول سعيد بن جبير أنهم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وقال القشيري : الأنبياء داخلون في جملتهم ; لأن لهم الشهادة مع النبوة . وقيل : الملائكة . قال الحسن : استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين . قال مقاتل : يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت . وقيل : الحور العين . وقيل : هم المؤمنون ، لأن الله تعالى قال عقب هذا : من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون وقال بعض علمائنا : والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل .
قلت : خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي فليعول عليه ، لأنه نص في التعيين ، وغيره اجتهاد . والله أعلم . وقيل غير هذا على ما يأتي في ( الزمر ) وقوله ففزع من في السماوات ماض و ( ينفخ ) مستقبل فيقال : كيف عطف ماض على مستقبل ؟ فزعم الفراء أن هذا محمول على المعنى ; لأن المعنى : إذا نفخ في الصور ففزع . إلا من شاء الله نصب على الاستثناء . وكل أتوه داخرين قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي ونافع وابن عامر وابن كثير : ( آتوه ) جعلوه فعلا مستقبلا . وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة وحفص عن عاصم : ( وكل أتوه ) مقصورا ، على الفعل الماضي ، وكذلك قرأه ابن مسعود وعن قتادة ( وكل أتاه داخرين ) قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق في القراءات من قرأ : ( وكل أتوه ) وحده على لفظ ( كل ) ومن قرأ : ( أتوه ) جمع على معناها ، وهذا القول غلط قبيح ; لأنه إذا قال : ( وكل أتوه ) فلم يوحد وإنما جمع ، ولو وحد لقال : ( أتاه ) ولكن من قال : ( أتوه ) جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنه رده إلى ( ففزع ) ومن قرأ ( وكل آتوه ) حمله على المعنى أيضا وقال : ( آتوه ) لأنها جملة منقطعة من الأول قال ابن نصر : قد حكي عن أبي إسحاق رحمه الله ما لم يقله ، ونص أبي إسحاق : وكل أتوه داخرين ويقرأ : ( آتوه ) فمن وحد فللفظ ( كل ) ومن جمع فلمعناها . يريد ما أتى في القرآن أو غيره من توحيد خبر ( كل ) فعلى اللفظ أو جمع فعلى المعنى ; فلم يأخذ أبو جعفر هذا المعنى قال المهدوي : ومن قرأ وكل أتوه داخرين فهو فعل من الإتيان وحمل على معنى ( كل ) دون لفظها ، ومن قرأ ( وكل آتوه داخرين ) فهو اسم الفاعل من أتى . يدلك على ذلك قوله تعالى : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ومن قرأ ( وكل أتاه ) حمله على لفظ ( كل ) دون معناها وحمل ( داخرين ) على المعنى ، ومعناه صاغرين ، عن ابن عباس وقتادة . وقد مضى في ( النحل ) .