قوله تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون
( ما كان ) معناه ما ينبغي ; كما قال : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ و ما كان لله أن يتخذ من ولد . و ما يكون لنا أن نتكلم بهذا يعني ما ينبغي . والبشر يقع للواحد والجمع لأنه بمنزلة المصدر ; والمراد به هنا عيسى في قول الضحاك والسدي . والكتاب : القرآن . والحكم : العلم والفهم . وقيل أيضا : الأحكام . أي إن الله لا يصطفي لنبوته الكذبة ، ولو فعل ذلك بشر لسلبه الله آيات النبوة وعلاماتها .
ونصب ثم يقول على الاشتراك بين أن يؤتيه وبين يقول أي لا يجتمع لنبي إتيان النبوة وقوله : كونوا عبادا لي من دون الله .
ولكن كونوا ربانيين أي ولكن جائز أن يكون النبي يقول لهم كونوا ربانيين . وهذه الآية قيل إنها نزلت في نصارى نجران . وكذلك روي أن السورة كلها إلى قوله وإذ غدوت من أهلك كان سبب نزولها نصارى نجران ولكن مزج معهم اليهود ; لأنهم فعلوا من الجحد والعناد فعلهم .
والربانيون واحدهم رباني منسوب إلى الرب . والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ; وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور ; روي معناه عن ابن عباس . قال بعضهم : كان في الأصل ربي فأدخلت الألف والنون للمبالغة ; كما يقال للعظيم اللحية : لحياني ولعظيم الجمة جماني ولغليظ الرقبة رقباني . وقال المبرد : الربانيون أرباب العلم ، واحدهم ربان ، من قولهم : ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه ; فمعناه على هذا يدبرون أمور الناس ويصلحونها . والألف والنون للمبالغة كما قالوا ريان وعطشان ، ثم ضمت إليها ياء النسبة كما قيل : لحياني ورقباني وجماني . قال الشاعر :
لو كنت مرتهنا في الجو أنزلني منه الحديث ورباني أحباري
فمعنى الرباني العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه ; لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم . وقد تقدم هذا المعنى في البقرة : وقال أبو رزين : الرباني هو العالم الحكيم . وروى شعبة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود ولكن كونوا ربانيين قال : حكماء علماء . ابن جبير : حكماء أتقياء . وقال الضحاك : لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القرآن جهده فإن الله تعالى يقول : ولكن كونوا ربانيين . وقال ابن زيد : الربانيون الولاة ، والأحبار العلماء . وقال مجاهد : الربانيون فوق الأحبار . قال النحاس : وهو قول حسن ; لأن الأحبار هم العلماء . والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة ; مأخوذ من قول العرب : رب أمر الناس يربه إذا أصلحه وقام به ، فهو راب ورباني على التكثير . قال أبو عبيدة : سمعت عالما يقول : الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي ، العارف بأنباء الأمة وما كان وما يكون . وقال محمد بن الحنفية يوم مات أبي عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حر ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه - ثم تلا هذه الآية - ولكن كونوا ربانيين الآية . رواه ابن عباس .
قوله تعالى : بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون قرأه أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف من العلم . واختار هذه القراءة أبو حاتم . قال أبو عمرو : وتصديقها تدرسون ولم يقل " تدرسون " بالتشديد من التدريس . وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة تعلمون بالتشديد من التعليم ; واختارها أبو عبيد . قال : لأنها تجمع المعنيين " تعلمون ، و ( تدرسون ) . قال مكي : التشديد أبلغ ، لأن كل معلم عالم بمعنى يعلم وليس كل من علم شيئا معلما ، فالتشديد يدل على العلم والتعليم ، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط ، فالتعليم أبلغ وأمدح وغيره أبلغ في الذم . احتج من رجح قراءة التخفيف بقول ابن مسعود كونوا ربانيين قال : حكماء علماء ; فيبعد أن يقال كونوا فقهاء حكماء علماء بتعليمكم . قال الحسن كونوا حكماء علماء بعلمكم . وقرأ أبو حيوة ( تدرسون ) من أدرس يدرس . وقرأ مجاهد ( تعلمون ) بفتح التاء وتشديد اللام ، أي تتعلمون .