اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين : الأول : أنه خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق ، فاخترن البقاء ، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة . ومنهم من قال : إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن ، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، ذكره الحسن وقتادة . ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال : لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة .
قلت : القول الأول أصح ، لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت : قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا في رواية : فاخترناه فلم يعده طلاقا ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق ، لذلك قال : يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك الحديث . ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة . فثبت أن الاستئمار إنما وقع في الفرقة ، أو النكاح . والله أعلم .
واختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها ، فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى : إنه لا يلزمه طلاق ، لا واحدة ولا أكثر ، هذا قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة . ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب . وروي عن علي وزيد أيضا : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة ، وهو قول الحسن البصري والليث ، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك . وتعلقوا بأن قوله : اختاري ، كناية عن إيقاع الطلاق ، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة ، كقوله : أنت بائن . والصحيح الأول ، لقول عائشة : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعده علينا طلاقا . أخرجه الصحيحان . قال ابن المنذر : وحديث عائشة دل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا ، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق ، ويدل على معنى ثالث ، وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها ، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمره الله . وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس . وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي . وروي عن علي أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . ورواه ابن خويز منداد عن مالك . وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث . وهو قول الحسن البصري ، وبه قال مالك والليث ؛ لأن الملك إنما يكون بذلك . وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء . وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية .
ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء ، والقضاء ما قضت فيهما جميعا ، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة . قال ابن شعبان : وقد اختاره كثير من أصحابنا ، وهو قول جماعة من أهل المدينة . قال أبو عمر : وعلى هذا القول أكثر الفقهاء . والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما ، وذلك أن التمليك عند مالك وهو قول الرجل لامرأته : قد ملكتك ، أي قد ملكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك ، كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها . وقالت طائفة من أهل المدينة : له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها . والأول قول مالك في المشهور . وروى ابن خويز منداد . عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث ، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة . وبه قال أبو الجهم . قال سحنون : وعليه أكثر أصحابنا .
وتحصيل مذهب مالك : أن المخيرة إذا اختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله ، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له . وإن اختارت واحدة فليس بشيء ، وإنما الخيار البتات ، إما أخذته وإما تركته ؛ لأن معنى التخيير التسريح ، قال الله تعالى في آية التخيير : فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا فمعنى التسريح البتات ، قال الله تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . والتسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة ، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم . ومن جهة المعنى أن قوله : اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألا يكون له عليها سبيل إذا اختارت نفسها ، ولا يملك منها شيئا ؛ إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا اختارته ، فإذا اختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ ، وكانت بمنزلة من خير بين شيئين فاختار غيرهما . وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة ، لأنها تبين في الحال .
واختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار ، فقال مرة : لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض . فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها ، وعلى هذا أكثر الفقهاء . وقال مرة : لها الخيار أبدا ما لم يعلم أنها تركت ، وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة ، فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئا كان له رفعها على الحاكم لتوقع أو تسقط ، فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها . وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها . واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى : فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وأيضا فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها ، فصار كالعقد بينهما ، فإن قبلته وإلا سقط ، كالذي يقول : قد وهبت لك أو بايعتك ، فإن قبل وإلا كان الملك باقيا بحاله . هذا قول الثوري والكوفيين والأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور ، وهو اختيار ابن القاسم ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها .
قلت : وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك رواه الصحيح ، وخرجه البخاري ، وصححه الترمذي . وقد تقدم في أول الباب . وهو حجة لمن قال : إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما ، روي هذا عن الحسن والزهري ، وقال مالك في إحدى روايتيه . قال أبو عبيد : والذي عندنا في هذا الباب ، اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث ، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبويها ، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر . قال المروزي . هذا أصح الأقاويل عندي ، وقاله ابن المنذر والطحاوي .