قوله تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : لئن لم ينته المنافقون أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ; كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال : المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة قال : هم شيء واحد ، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء . والواو مقحمة ، كما قال :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة ، وقد مضى في ( البقرة ) . وقيل : كان منهم قوم يرجفون ، وقوم يتبعون النساء للريبة ، وقوم يشككون المسلمين . قال عكرمة وشهر بن حوشب : الذين في قلوبهم مرض يعني الذين في قلوبهم الزنى . وقال طاوس : نزلت هذه الآية في أمر النساء . وقال سلمة بن كهيل : نزلت في أصحاب الفواحش ، والمعنى متقارب . وقيل : المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد ، عبر عنهم بلفظين ; دليله آية المنافقين في أول سورة ( البقرة ) . والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم ، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم قد قتلوا أو هزموا ، وإن العدو قد أتاكم ، قال قتادة وغيره . وقيل كانوا يقولون : أصحاب الصفة قوم عزاب ، فهم الذين يتعرضون للنساء . وقيل : هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة . وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة . وقال ابن عباس : الإرجاف التماس الفتنة ، والإرجاف : إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به . وقيل : تحريك القلوب ، يقال : رجفت الأرض - أي تحركت وتزلزلت - ترجف رجفا . والرجفان : الاضطراب الشديد . والرجاف : البحر ، سمي به لاضطرابه . قال الشاعر :
المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف
والإرجاف : واحد أراجيف ، الأخبار . وقد أرجفوا في الشيء ، أي خاضوا فيه . قال الشاعر :
فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
وقال آخر :
أبالأراجيف يا بن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور
فالإرجاف حرام ؛ لأن فيه إذاية . فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف .
الثانية : قوله تعالى : لنغرينك بهم أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل ، وقال ابن عباس : لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم . ثم إنه قال عز وجل : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره وإنه أمره بلعنهم ، وهذا هو الإغراء ; وقال محمد بن يزيد : قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع اتصال الكلام بها ، وهو قوله عز وجل : أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا . فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم ; أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : خمس يقتلن في الحل والحرم . فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء . النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية . وقيل : إنهم قد انتهوا عن الإرجاف فلم يغر بهم . ولام لنغرينك لام القسم ، واليمين واقعة عليها ، وأدخلت اللام في ( إن ) توطئة لها .
الثالثة : قوله تعالى : ثم لا يجاورونك فيها أي في المدينة . إلا قليلا نصب على الحال من الضمير في يجاورونك ; فكان الأمر كما قال تبارك وتعالى ; لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء . فهذا أحد جوابي الفراء ، وهو الأولى عنده ، أي لا يجاورونك إلا في حال قلتهم . والجواب الآخر : أن يكون المعنى إلا وقتا قليلا ، أي لا يبقون معك إلا مدة يسيرة ، أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا ، فيكون نعتا لمصدر أو ظرف محذوف . ودل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار . وقد مضى في ( النساء ) .