قوله تعالى : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال ابن عباس : تجعلون شكركم التكذيب . وذكر الهيثم بن عدي : أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان ؟ أي : ما شكره . وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان شكره ، لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه فيكون الشكر رزقا على هذا المعنى . فقيل : وتجعلون رزقكم أي : شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقا لكم أنكم تكذبون بالرزق أي : تضعوا الرزق مكان الشكر ، كقوله تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية أي : لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة . ففيه بيان أن ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكن أسبابا ، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة ، أو صبر إن كان مكروها تعبدا له وتذللا . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : " وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " حقيقة . وعن ابن عباس أيضا : أن المراد به الاستسقاء بالأنواء ، وهو قول العرب : مطرنا بنوء كذا ، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا ، قال : فنزلت هذه الآية : فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون . وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرأيتم إن دعوت الله لكم فسقيتم لعلكم تقولون : هذا المطر بنوء كذا فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء . فصلى ركعتين ، ودعا ربه ، فهاجت ريح ، ثم هاجت سحابة ، فمطروا ، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول : سقينا بنوء كذا ، ولم يقل هذا من رزق الله فنزلت : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون أي : شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة وتقولون : سقينا بنوء كذا ، كقولك : جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي ، وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوا . وفي الموطإ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس وقال : أتدرون ماذا قال ربكم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك مؤمن بالكوكب كافر بي . قال الشافعي رحمه الله : لا أحب أحدا أن يقول مطرنا بنوء كذا وكذا ، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع ، ولا يمطر ولا يحبس شيئا من المطر ، والذي أحب أن يقول : مطرنا وقت كذا ، كما تقول مطرنا شهر كذا ، ومن قال : مطرنا بنوء كذا ، وهو يريد أن النوء أنزل الماء ، كما عنى بعض أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر ، حلال دمه إن لم يتب . وقال أبو عمر بن عبد البر : وأما قوله عليه الصلاة والسلام حاكيا عن الله سبحانه : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فمعناه عندي على وجهين ؛ أما أحدهما : فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء ، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرا صريحا يجب استتابته عليه وقتله إن أبى ؛ لنبذه الإسلام ورده القرآن . والوجه الآخر أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء ، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه ، وهذا وإن كان وجها مباحا ، فإن فيه أيضا كفرا بنعمة الله عز وجل ، وجهلا بلطيف حكمته في أنه ينزل الماء متى شاء ، مرة بنوء كذا ، ومرة بنوء كذا ، وكثيرا ما ينوء النوء فلا ينزل معه شيء من الماء ، وذلك من الله تعالى لا من النوء . وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مطر : مطرنا بنوء الفتح ، ثم يتلو : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها قال أبو عمر : وهذا عندي نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : مطرنا بفضل الله ورحمته . ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبد المطلب حين استسقى به : يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال العباس : العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد سقوطها . فما مضت سابعة حتى مطروا ، فقال عمر : الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته . وكان عمر رحمه الله قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل فسأله عنه ، أخرج أم بقيت منه بقية ؟ . وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا في بعض أسفاره يقول : مطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبت بل هو سقيا الله عز وجل قال سفيان : عثانين الأسد الذراع والجبهة . وقراءة العامة تكذبون من التكذيب . وقرأ المفضل عن عاصم ويحيى بن وثاب " تكذبون " بفتح التاء مخففا . ومعناه ما قدمناه من قول من قال : مطرنا بنوء كذا . وثبت من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث لن يزلن في أمتي : التفاخر في الأحساب ، والنياحة ، والأنواء ، ولفظ مسلم في هذا أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة .