تعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التي وردت في القرآن الكريم مبينة ما يتعلق بأحكام الحج وآدابه، وسنحاول- بعون الله- أن نبين ما اشتملت عليه من آداب سامية، وتوجيهات حكيمة، بأسلوب هو إلى الإيجاز أقرب منه إلى الإسهاب والإطناب، قاصدين عدم التعرض لتفريعات الفقهاء واختلافاتهم إلا بالقدر الذي يقتضيه المقام.
والحج في اللغة: القصد يقال حج فلان الشيء: إذا قصده مرة بعد أخرى.
وفي الشرع: القصد لزيارة بيت الله الحرام في وقت مخصوص بأفعال مخصوصة، وبكيفية مخصوصة، بينتها الشريعة الإسلامية.
والعمرة في اللغة: الزيارة، مأخوذة من العمارة التي هي ضد الخراب ثم أطلقت على الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان.
وفي الشرع: زيارة بيت الله الحرام للتقرب إليه، وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم أركانها وشروطها وكيفيتها.
وقد كانت شعيرة الحج والعمرة معروفتين عند العرب قبل الإسلام، ولكن بأفعال وبكيفية فيها الكثير من الأباطيل والأوهام، فجاءت شريعة الإسلام فوضعت لهما أفضل الأحكام، وأسمى الآداب، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين أن يسيروا في أدائهما على الطريقة التي سار عليها فقال: «خذوا عنى مناسككم» .
قال ابن كثير: «وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة عشر. وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته» .
وقد اختلف العلماء في المقصود من الإتمام في قوله- تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فبعضهم يرى أن المراد بإتمامهما: إقامتهما وإيجادهما وإنشاؤهما فيكون المعنى: أقيموا الحج والعمرة لله: أى أدوهما وائتوا بهما. فالأمر في «أتموا» منصب على الإنشاء والأداء. فهو كقوله- تعالى-: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وأصحاب هذا الرأى يرون أن العمرة واجبه كالحج، لأن الله- تعالى- أمر بهما معا، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة..» .
وإلى هذا الرأى اتجه سعيد بن جبير، وعطاء، وسفيان الثوري، والشافعية.
ويرى كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء كالأحناف والمالكية- أن المراد بإتمامهما: الإتيان بهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله- تعالى- وأن على المسلّم إذا شرع فيهما أو في أحدهما أن يتمه ويأتى به كاملا، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عمرة القضاء.
فيكون المعنى: ائتوا بالحج والعمرة كاملى الأركان والشروط والآداب خالصين لوجه الله- تعالى-.
فالأمر على هذا الرأى منصب على الإتمام لا على أصل الأداء.
وأصحابه يرون أن العمرة ليست واجبة كالحج لعدم قيام الدليل على وجوبها، وليس في الآية ما يفيد الوجوب، بل فيها ما يفيد وجوب الإتمام إن شرع فيهما أو في أحدهما. وفرضية الحج إنما ثبتت بقوله- تعالى-: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وأيضا، فإن أركان العمرة وأفعالها تدخل في ثنايا أفعال الحج وأركانه، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» إلى غير ذلك من الأدلة التي ساقها كل فريق لتدعيم رأيه.
ومجمل القول أن فرضية الحج مجمع عليها بين العلماء، وأما فرضية العمرة ففيها خلاف، انتصر كثير من العلماء فيه للرأى القائل بأنها ليست فرضا كالحج، بل هي سنة.
وقد كانت فرضية الحج في السنة التاسعة من الهجرة على أرجح الروايات. ويرى بعض العلماء أن الحج قد فرض قبل ذلك، إلا أن تنفيذه لم يتم إلا في السنة التاسعة عند ما أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أميرا على الحج، وكان ذلك تمهيدا لحجه صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر.
وقد أمر- سبحانه- بإتمام الحج والعمرة لله دون غيره لأن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر، والتفاخر، وقضاء الحوائج، وحضور الأسواق، دون أن يكون لله- تعالى- فيه حظ يقصد، ولا قربة تعتقد، فأمر- سبحانه- المسلمين أن ينزهوا عباداتهم- وخصوصا الحج- عن الأقوال السيئة، والأفعال القبيحة، وأن يقصدوا بأداء ما كلفهم الله به الإخلاص والطاعة له- سبحانه-.
وبعد أن أمر الله- تعالى- عباده بأن يتموا الحج والعمرة له، أردف ذلك ببيان ما يجب عليهم عمله فيما لو حال حائل بينهم وبين إتمامهما فقال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ والإحصار والحصر في اللغة: بمعنى الحبس والمنع والتضييق سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو جور سلطان أو ما يشبه ذلك. قال- تعالى- في شأن قتال المشركين: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ أى: ضيقوا عليهم المنافذ. ويقال للذي لا يبوح بسره: حصر لأنه حبس نفسه عن البوح بسره.
ويرى بعض علماء اللغة أن الإحصار يكون الحبس والمنع فيه من ذات الشخص كالمرض وذهاب النفقة، وأما الحصر فيكون الحبس والمنع فيه لا من ذات الشخص، بل بسبب أمر خارجى كالعدو ونحوه.
الْهَدْيِ: - بتخفيف الياء وتشديدها- مصدر بمعنى المفعول، أى: المهدى والمراد به ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الإبل والبقرة والشاة ليذبح تقربا إلى الله- تعالى-.
واسْتَيْسَرَ هنا بمعنى يسر وتيسر أى: ما أمكن تحصيله من الهدى بدون مشقة أو تعب.
والمعنى: أتموا- أيها المؤمنون- الحج والعمرة لله متى قدرتم على ذلك، فإن أُحْصِرْتُمْ أى، منعتم بعد الإحرام من الوصول إلى البيت الحرام بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، فعليكم إذا أردتم التحلل من الإحرام أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى.
وبعض العلماء- كالشافعية والمالكية- يرون أن المراد بالإحصار في الآية ما كان بسبب عدو، كما حدث للمسلمين في صلح الحديبية، أما إذا كان الإحصار بسبب مرض، فإن الحاج أو المعتمر يبقى على إحرامه حتى يبرأ من مرضه ثم يذهب إلى البيت فيطوف به سبعا، ويسعى بين الصفا والمروة، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه، ولا يتحلل بالذبح، إذ التحلل بالذبح عندهم لا يكون إلا في حالة الإحصار بسبب العدو. أما الأحناف فيرون أن الإحصار سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو ما يشبههما فإنه يسيغ التحلل بالذبح، إذ الآية عندهم تعم كل منع، وعلى من أحصر أن يقضى الحج أو العمرة فيما بعد.
وفي هذه الجملة الكريمة تقرير للمبادئ التي جاءت بها شريعة الإسلام تلك المبادئ التي تتوخى في كل شئونها التيسير لا التعسير، والرفق لا التشديد قال- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال- تعالى-: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .
ثم قال- تعالى-: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
حلق الرأس أو تقصيرها علامة على الانتهاء من الإحرام، كما أن التسليم علامة الانتهاء من الصلاة، أو علامة قطعهما عند الاضطرار إلى ذلك. والحلق بالنسبة للرجال أفضل من التقصير، فقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: يا رسول الله وللمقصرين. قال: اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: يا رسول الله وللمقصرين. قال: وللمقصرين» . أما بالنسبة للنساء فيكفى التقصير.
والمحل: اسم لزمان الحلول أو مكانه. يقال: بلغ الدين محله إذا حل وقت أدائه، كما يقال: بلغ الشخص محله إذا وصل إلى المكان الذي ينزل به.
قال الآلوسى: وكون المراد بالمحل هنا المكان هو الظاهر في الآية.
والمعنى: أتموا الحج والعمرة لله، فإن منعتم من إتمامهما وأنتم محرمون فعليكم إذا أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى، ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تعلموا أن الهدى المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه، وهو الحرم.
وهذا رأى الأحناف، فقد قرروا أن المراد بالمحل البيت الحرام، فهو اسم مكان، لأن الله- تعالى- قد قال في آية أخرى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، وعليه فلا يجوز للمحصر أن يحلق ويتحلل إلا بعد أن يصل الهدى الذي يرسله إلى البيت الحرام ويذبح.
أما جمهور الفقهاء فيرون أن محل الهدى للمحصر هو المكان الذي حدث فيه الإحصار، ودليلهم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد نحر هو وأصحابه هديهم بالحديبية وهي ليست من الحرم، وذلك عند ما منعه المشركون من دخول مكة.
وقد أجاب الأحناف على ذلك بأن محصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما يقول الآلوسى- كان في طريق الحديبية بأسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم.
وعلى رأى جمهور الفقهاء يكون المعنى: ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تذبحوا الهدى في الموضع الذي أحصرتم فيه، فإذا تم الذبح فاحلقوا وتحللوا. والخطاب على كلا المعنيين يكون للمحصرين، لأنه أقرب مذكور.
ويرى المحققون من العلماء أن رأى جمهور الفقهاء أكثر اتفاقا مع السنة النبوية، وفيه تسهيل على المحصرين، والمناسب لهم هو التيسير لا التعسير، ولا شك أن ذبحهم لهديهم في مكان إحصارهم أيسر لهم، وحملوا قوله- تعالى-: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ على أنه خطاب عام لجميع المكلفين لا فرق بين محصر وغير محصر، وأن المقصود من الجملة الكريمة هو البيان العام لمكان التحلل وزمانه، أما مكان الذبح عند الإحصار فقد بينه النبي صلّى الله عليه وسلّم بذبحه لهديه في الحديبية وهي ليست من الحرم عند المحققين.
قال الإمام الرازي: ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقد قال الشافعى وغيره:
المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل وقال أبو حنيفة: إنه اسم للمكان .
وبعد أن بين- سبحانه- أن الحلق لا يجوز للمحرم ما دام مستمرا على إحرامه، أردف ذلك ببيان بعض الحالات التي يجوز فيها للمحرم أن يحلق رأسه مع استمراره على إحرامه فقال- تعالى-: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
أى: فمن كان منكم- أيها المحرمون- مريضا بمرض يضطر معه إلى الحلق، أو كان به أذى من رأسه كجراحة وحشرات مؤذية، فعليه إن حلق فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
وقوله: فَفِدْيَةٌ مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى: فعليه فدية، وأيضا ففيه إضمار آخر والتقدير: فحلق فعليه فدية.
والفدية: هي العوض عن الشيء الجليل النفيس. ولا ريب أن محرمات الحج والعمرة أمور لها جلالها وعظمها.
وعبر- سبحانه- هنا بالفدية دون الكفارة، لأن الذي به مرض أو أذى من رأسه لم يرتكب ذنبا أو إثما حتى يكفر عنه.
قال القرطبي: والنسك: جمع نسيكه، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله- تعالى- وتكون من الإبل والبقر والغنم- ويجمع- أيضا- على نسائك. والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله- تعالى-: وَأَرِنا مَناسِكَنا أى: متعبداتنا. وقيل: أصل النسك في اللغة الغسل ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النسك سبائك الفضة التي خلصت من الخبث، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام» .
وقوله- تعالى-: مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بيان لجنس الفدية.
وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدار هذه الفدية، فقد روى الشيخان عن كعب بن عجرة الأنصارى قال: حملت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والقمل يتناثر على وجهى فقال: ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا ... أما تجد شاة؟ قلت: لا!! قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك. فنزلت فىّ خاصة وهي لكم عامة.
فقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدار الفدية في هذا الحديث، وعامة العلماء يرون أن المحرم لعذر كهذا يخير في هذا المقام، إن شاء صام وإن شاء تصدق وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على المساكين.
قال ابن كثير: ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل، ولما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم كعب بن عجرة بذلك أرشده أولا إلى الأفضل فقال: أما تجد شاه؟ فكل حسن في مقامه» .
وبعد أن بين- سبحانه كيفية التحلل عند الإحصار، وكيفية التحلل الجزئى من بعض المحرمات عند المرض، عقب ذلك ببيان كيفية التحلل في حالة الأمن فقال: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ.
وقوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ الأمن ضد الخوف. أى: فإذا زال خوفكم وثبت أمنكم والجملة معطوفة على قوله أُحْصِرْتُمْ وجيء بإذا لأن فعل الشرط وهو أَمِنْتُمْ مرغوب فيه.
وقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ جواب إذا. والتمتع في اللغة- كما قال الإمام الرازي- التلذذ.
يقال: تمتع بالشيء إذا تلذذ به. والمتاع كل شيء يتمتع به، وأصله من قولهم: حبل ماتع، أى: طويل. وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به .
والمراد بالتمتع في الآية المعنى الشرعي بأن يجمع المسلم بين العمرة والحج في عام واحد في أشهر لحج، بأن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج.
وسمى هذا النوع من الإحرام تمتعا، لأن المحرم به يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد.
لأنه يحرم بالعمرة أولا ويقوم بمناسكها وتلك متعة روحية وبعد الانتهاء من أدائها يتحلل فيجوز له أن يقرب النساء ويمس الطيب حتى يحرم بالحج وتلك متعة بدنية.
وهناك نوعان آخران من الإحرام.
أحدهما: الإفراد ومعناه: أن يحرم بالحج فقط ولا يجمع معه العمرة، وإنما يأتى بها في وقت آخر.
وثانيهما: القران ومعناه: أن يجمع بين العمرة والحج في إحرام واحد، بأن يبقى على إحرامه ويأتى بمناسك الحج والعمرة بالإحرام نفسه.
والمعنى: فإذا ثبت أمنكم- أيها المسلمون- عند أدائكم للحج والعمرة، فمن تمتع منكم بالعمرة إلى الحج، بأن أحرم بها في أشهر الحج، ثم بعد الانتهاء من أعمالها تحلل بأن حلق رأسه، وباشر أهله إن كانوا معه، وانتظر متحللا وصار من حقه أن يفعل كل ما يفعله من ليس محرما إلى وقت الإحرام بالحج، فعليه في هذه الحالة أن يذبح ما تيسر له من الهدى من غنم أو بقر أو إبل ليكون هذا الذبح شكرا لله حيث وفقه- سبحانه- للجمع بين النسكين مع التمتع بينهما بأفعال المتحلل، فمن لم يجد ما يذبحه فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في وقت الحج وأن يصوم سبعة أيام بعد فراغه منه.
وقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ... معطوف على فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ... لأن فَمَنْ تَمَتَّعَ مع جوابه وهو فَمَا اسْتَيْسَرَ ... مقدر فيه معنى فمن تمتع واجدا الهدى، فعطف عليه فمن لم يجد أى الهدى.
وقد جعل- سبحانه- الصيام بدلا عن الهدى زيادة في الرخصة والرحمة وزيادة في الرفق والتيسير فقد جعله على مرحلتين:
إحداهما: - وهي الأقل- تكون في وقت الحج، ويفضل كثير من الفقهاء أن يصوم سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه.
وثانيتهما: - وهي الأكثر- تكون بعد الرجوع إلى أهله حيث يطمئن ويستقر وتذهب مشقة السفر فيصوم سبعة أيام.
وبعض الفقهاء يرى جواز الصيام عند الأخذ في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج، ويرجح الوجه الأول ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر وفيه: «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» .
والإشارة في قوله- تعالى-: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ إلى الثلاثة والسبعة. ومميز العدد محذوف أى: أيام. والجملة مؤكدة لما أفاده قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ وفائدة هذا التأكيد دفع توهم أن الواو بمعنى أو، أو أن السبعة كناية عن مطلق كثرة العدد، وبذلك يتقرر الحكم نصا، ويتبين أن الذي يحل محل النسك إنما هو العشرة الكاملة وليس بعضها.
ووصف العشرة بأنها كاملة، للتنويه بأن هذا الصوم طريق الكمال لأعمال الحج، وأن الحاج إذا نسى بعضها لا يكون حجه تاما حتى يصوم ما أمره الله- تعالى- به.
وقوله: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الإشارة فيه تعود إلى التمتع المفهوم من قوله- تعالى-: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ.. إلخ.
أى: ذلك التمتع الذي يتمتع فيه المحرم بين النسكين، إنما هو للشخص الذي ليس أهله من المقيمين في مكة وما حولها، لأن المقيمين في مكة وما حولها يفردون ولا يجمعون، إذ العمرة في إمكانهم أن يؤدوها طول أيام السنة.
وقد شرع- سبحانه- التمتع ليكون تيسيرا ورفقا للمقيمين بعيدا عن مكة هذا رأى الأحناف.
ويرى الشافعية: أن أهل مكة وما حولها يقرنون ويتمتعون كغيرهم من أهل الآفاق، وأن اسم الإشارة في الجملة الكريمة يعود إلى النسك وما يقوم مقامه من الصوم لأنه أقرب مذكور.
وعلى رأيهم يكون المعنى: ذلك الذبح لما تيسر من الهدى والصيام لمن لم يتيسر له الهدى إنما هو على سكان الآفاق، لا على سكان مكة وما حولها، لأن سكان مكة وما حولها قد أحرموا لتمتعهم من الميقات فلا يجب عليهم شيء.
والمراد بحاضرى المسجد الحرام: أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل الميقات عند الحنفية. وقال المالكية: هم أهل مكة خاصة. وقال الشافعية: هم أهل مكة ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة. ولكل أدلته المفصلة في كتب الفقه.
ثم ختم- سبحانه- الآية بالأمر بتقواه وبالتحذير من عقابه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
أى: واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن لم يخشه ولم يلتزم حدوده.
وفي هذا الأمر بالتقوى في ختام هذه الآية التي تحدثت عن الحج إشعار بأن هذه الفريضة ليست العبرة فيها بما تعمله الجوارح وإنما العبرة بما تتركه في القلوب من توبة صادقة، وصيانة للنفس عن اقتراف المحارم.
وفي قوله: وَاعْلَمُوا اهتمام بالخبر، وتحقيق لمضمونه، وترهيب من العقاب مع الترغيب بالثواب، فقد جرت عادة الناس أنهم يصلحون بالثواب والعقاب.
هذا، وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على بعض الأحكام التي تتعلق بالحج والعمرة، والمتدبر في هذه الأحكام يراها قد امتازت بأحكم ضروب التوجيه، وأيسر أنواع التكليف.
ثم بين- سبحانه- وقت الحج وما يجب على المسلّم عند أدائه لهذه الفريضة من آداب فقال- تعالى-: