ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بأن هؤلاء اليهود الذين يزعمون أن الجنة خالصة لهم في غاية الحرص على الحياة فقال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.
ومعنى الآية الكريمة: ولتجدن- يا محمد- أولئك اليهود- الذين يزعمون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس- لتجدنهم أحب الناس للحياة، وأحرصهم عليها، وأشدهم كراهية للموت «وليس ذلك عند ما يكونون متمتعين بالطمأنينة والعافية فقط بل هم كذلك حتى ولو زالت عنها كل معاني الراحة والطمأنينة، فهم أحرص عليها حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث، والذين يعتبرون نعيمهم الأكبر هو ما يتمتعون به من اللذائذ في هذه الدنيا، وهم في حرصهم على الحياة يتمنون أن تطول أعمارهم دهورا طويلة، لا يصل إليها خيال أحد ممن يحرصون عليها كما قال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. وبذلك تكون الآية الكريمة قد كذبتهم في دعواهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس لأن الأمر لو كان كما يزعمون لرحبوا بالانتقال إليها، ولكنهم لا يحبون الموت ولا يكاد يخطر ببالهم، ويحرصون كل الحرص على اللقاء حتى مع سوء الحالة ورذالة العيش، كما يشعر بذلك التنكير في قوله تعالى عَلى حَياةٍ.
والمراد بالناس جميعهم، وأفعل التفضيل في «أحرص» على بابه، لأن الحرص على الحياة غريزة في البشر إلا أنهم متفاوتون فيه قوة وكيفية وأسبابا، كما قال الشاعر:
أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا
فالناس جميعا وإن كانوا يشتركون مع اليهود في الحرص على الحياة، إلا أن اليهود يزيدون على سائر الناس أنهم أحرصهم، وأنهم من أجل حرصهم عليها يضحون بدينهم وبكرامتهم وبكل شيء.
ونكر- سبحانه- الحياة التي يحرصون عليها، زيادة في تحقيرهم، فكأنه- سبحانه- يقول: إنهم شديد والحرص على الحياة، ولو كانت حياة بؤس وشقاء، وللإشعار بأن ما يهمهم هو مطلق حياة كيفما كانت، بصرف النظر عن العزة والكرامة، فمن أمثال اليهود المشهورة «الحياة وكفى» .
ولا شك أن شدة التهالك على الحياة، تؤدى إلى الجبن، واحتمال الضيم، وتجعل الأمة التي تنتشر فيها هذه الرذيلة لا تفرق بين الحياة الكريمة والحياة الذليلة.
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عطف على الناس، لأنه لما كان قوله تعالى: أَحْرَصَ النَّاسِ في معنى: أحرص من جميع الناس صح أن يراعى المعنى، فيكون قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا معطوف عليه، فيكون المعنى: أحرص من جميع الناس، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة.
والذين أشركوا، هم الذين جعلوا لله شركاء وإنما أفردوا بالذكر مع أنهم من الناس، مبالغة في توبيخ اليهود وذمهم، لأنهم إذا زاد حرصهم على الحياة- وهم أهل كتاب- على المشركين الذين لا كتاب لهم ولا يدينون ببعث أو نشور كان ذلك دليلا على هوان نفوسهم، وابتذال كرامتهم وعدم اعتدادهم بوصايا كتبهم التي تنهاهم عن الحرص على الحياة الذليلة.
قال صاحب الكشاف: «وفيه توبيخ عظيم، لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليها في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء، كان حقيقا بأعظم التوبيخ، فإن قلت: لم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلت: لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك» .
ثم بين- سبحانه- مظهرا من مظاهر حرصهم على الحياة فقال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ أى يتمنى الواحد منهم أن يعيش دهورا كثيرة، ليس من عادة الناس أن يحبوا بلوغها، لأنها تؤدى بهم إلى أرذل العمر، وعدم طيب العيش.
فالجملة الكريمة مستأنفة لإظهار مغالاتهم في التهالك على الدنيا ولتحقيق عموم النوعية في الحياة المنكرة، ولدفع ما يظنه بعض الناس من أن حرصهم على الحياة مهما اشتد فلن يصل بهم إلى تمنى أن يعيش الواحد منهم ألف عام، أو أكثر، فجيء بهذه الجملة الكريمة. لتحقيق أن تعلقهم بالدنيا يشمل حتى هذه السن المتطاولة، التي لا هناء فيها ولا راحة، والتي استعاذ من بلوغها المؤمنون.
ثم بين- سبحانه- أن تعميرهم الطويل لن ينجيهم من العقوبة، لأن الموت لا يتركهم مهما طال عمرهم، فقال تعالى: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ أى: وما أحد منهم بمبعده تعميره عن العذاب المعد له، ولا بمنجيه منه.
والجملة الكريمة فيها بيان مصيرهم المحتوم، وقطع لحبال مطامعهم، لأن الموت سيلحقهم مهما بلغ عمرهم، وسيلقون جزاءهم على سوء صنيعهم.
وفي التعبير بِمُزَحْزِحِهِ إشارة إلى أن طول عمرهم، ليس له أى أثر في تخفيف العذاب عنهم، وقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ تهديد ووعيد لهم لأنه- سبحانه- عليم بأعمالهم، محيط بما يخفون وما يعلنون، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون.
ومن هذا العرض للآيات الكريمة نرى أنها قد ردت على اليهود في دعواهم أن الجنة خالصة لهم، ردا يبطل حجتهم، ويفضح مزاعمهم، ويكبت نفوسهم، ويخرس ألسنتهم، ويعلن أن الجنة إنما هي لمن أسلّم وجهه لله وهو محسن، وهم ليسوا من هذا النوع من الناس ولذا حرصوا على الحياة وفزعوا من الموت، لأنهم يعلمون أن من ورائهم النار وبئس القرار بسبب ما ارتكبوا من سيئات، واقترفوا من أكاذيب.