ثم ذكر القرآن الكريم جناية أخرى تكذبهم في دعواهم: أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم- وهي إباؤهم التوراة عنادا واستكبارا فقال تعالى:
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ، قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
ومعنى الآية الكريمة: واذكروا- يا بنى إسرائيل- وقت أن أخذنا الميثاق عليكم بأن تعملوا بما في التوراة، وتتلقوا أحكامها بالتقبل والطاعة ورفعنا فوقكم الطور لنريكم آية من آياتنا العظمى التي تقوى قلوبكم، وتجعلكم تقبلون على تعاليم التوراة برغبة واستجابة، وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم بجد وحزم، واسمعوا ما أمرناكم به سماع تدبر وطاعة، ولكنكم- يا بنى إسرائيل- يا من تدعون الإيمان بما أنزل عليكم- أعرضتم عما أمرتم به من قبول التوراة وقلتم لنبيكم سمعنا قولك وعصينا أمرك، وخالط حب عبادة العجل قلوبكم كما يخالط الماء أعماق البدن ولم تأبهوا بما جاءكم في التوراة من الهدى والنور وبما صحب عرضها عليكم من الآية البينة وهي رفع الجبل فوقكم حتى ظننتم أنه واقع بكم فكفرتم بذلك كله ولا زالت نفوسكم تحن إلى عبادة العجل ولقد سرتم على منهج أسلافكم في العناد والجحود والإعراض عما ينزله الله من الحق، وإذا كان هذا شأنكم فكيف تدعون الإيمان بما أنزل عليكم؟
ثم أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يوبخهم على تخرصاتهم فقال تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وقوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ معناه: أننا حركناه ونقلناه معلقا فوقكم في الهواء، لتروا بأعينكم آية كونية من شأنها أنها تحملكم على الإيمان والطاعة إن كانت لكم عقول تعقل.
ومعنى قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا: قلنا لكم خذوا ما أمرناكم به في التوراة بجد واجتهاد في تأديته، واسمعوا ما تؤمرون به سماع طاعة وتفهم. فقوله تعالى وَاسْمَعُوا ليس المراد به مجرد السماع للقول فقط، بل المقصود منه السماع الذي يصحبه التدبر والاستجابة للأمر: فهو مؤكد ومقرر لقوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ.
ثم حكى- سبحانه- جوابهم الذي يدل على عنادهم فقال: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف طابق قوله جوابهم؟ قلت طابقه من حيث إنه قال لهم اسمعوا: وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة .
وقد اختلف المفسرون هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا أو أنهم فعلوا فعلا مقام القول فيكون مجازا؟
قال الفخر الرازي: الأكثرون من المفسرين على أنهم قالوا هذا القول حقيقة. وقال أبو مسلّم: وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول ولم يقولوه، كقوله تعالى فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. قال: والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل لا يجوز .
وقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ عطف على قولهم سمعنا وعصينا والإشراب السقي وجعل الشيء شاربا، واستعمل على وجه التجوز في خلط لون بآخر كأن أحد اللونين سقى الآخر، يقال: بياض مشرب بحمرة أى مختلط، وفلان أشرب قلبه حب كذا بمعنى خالط حبه قلبه.
قال الإمام الرازي: قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ في وجه هذه الاستعارة وجهان: الأول: معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب، وقوله في قلوبهم بيان لمكان الإشراب كقوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، الثاني: كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .
وفي الجملة الكريمة وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ مضاف محذوف وهو لفظ (حب) لدلالة المعنى عليه.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود الذين مردوا على العصيان قد خالط حب العجل نفوسهم حتى استقر في قلوبهم كما يخالط الماء أعماق الجسد. وحذف لفظ الحب من الجملة الكريمة، يشعر بشدة تعلق قلوبهم بالعجل حتى لكأنهم أشربوا ذاته.
والتعبير بقوله: أُشْرِبُوا يشير إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه.
وقوله تعالى: بِكُفْرِهِمْ دليل على أن محبتهم للعجل ناشئة عن كفر سابق، وجحود متأصل فكفرهم الذي ترتب على عبادتهم للعجل، قد سبقه كفر آخر، فهو كفر على كفر.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه في ختام الآية الكريمة بتوبيخهم فقال تعالى:
قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى: قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين يدعون الإيمان بما أنزل عليهم- قل لهم- بئس الشيء الذي يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء وعبادة العجل والعصيان إن كنتم مصدقين- كما زعمتم- بالتوراة، والحق أن التوراة ما أمرتكم بشيء من ذلك فما أنتم بمؤمنين بها ولا بغيرها من كتب الله، لأنها لا تأمر بالفحشاء.
فالجملة الكريمة خلاصة لإبطال قولهم «نؤمن بما أنزل علينا» بعد أن أبطله الله- تعالى- فيما سبق بشواهد متعددة، لأنهم لما زعموا ذلك، وكانوا مع هذا يفعلون أفعالا قبيحة تناقض الإيمان بأى كتاب سماوي، أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يذمهم على هذه الأفعال التي تناقض الإيمان بما أنزل عليهم لكي يعلم الناس جميعا أن دعواهم لا أساس لها من الصحة.
وأضاف- سبحانه- الإيمان إليهم فقال إِيمانُكُمْ ولم يقل الإيمان، لأنه ليس إيمانا صحيحا وإنما هو إيمان مزعوم، فإضافة الإيمان إليهم من باب التهكم بهم والاستهزاء بعقولهم.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم بالتوراة، وقدح في صحة دعواهم فإن الإيمان الحق إنما يأمر بعبادة الله وحده، وينهى عن عبادة سواه وعن ارتكاب السوء والفحشاء.
فالجملة الكريمة في معنى النفي لادعائهم الإيمان بالتوراة لأنها ما أمرت بشيء يبغضه الله تعالى.
قال الإمام ابن جرير: وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم. وإنما كذبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله، وتأمر بخلافه، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك، فبئس الأمر تأمر به. وإنما ذلك نفى من الله تعالى- عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله، وإعلام منه- جل ثناؤه- أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان» «1» .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة، والبراهين القاطعة على كذب اليهود في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، ووبختهم على مزاعمهم الباطلة، وأقوالهم الفاسدة.
هذا، ولفضيلة أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز كلام رصين عند حديثه عن هذه الآيات، فقد قال- رحمه الله-:
يقول الله تعالى في ذكر حجاج اليهود: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ، قُلْ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ....
هذا قطعة من فصل من قصة بنى إسرائيل، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي:
1- مقالة ينصح بها الناصح لليهود: إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن.
2- إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوى على مقصدين.
3- الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه.
وأقسم لو أن محاميا بليغا وكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية، ثم هدى إلى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو لما وسعه في أدائها أضعاف أضعاف هذه الكلمات، ولعله بعد ذلك لا يفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق.
قال الناصح لليهود: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة، ألستم قد أمنتم بالتوراة التي جاء بها.
موسى لأنها أنزلها الله؟ فالقرآن الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم أنزله الله، فآمنوا به كما آمنتم بها.
فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته. فجعل دعاءهم إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد.
ثم انظر كيف طوى ذكر المنزل عليه فلم يقل: آمنوا بما أنزل الله (على محمد) ، مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة.
أتدري لم ذلك؟ لأنه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائدا، وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسدا. أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام، فأدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل.
وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الاسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدى إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح ...
كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا. والقرآن لم ينزله علينا، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج.
هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهذا هو المقصد الأول، وقد زاد إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة، لأنه تقدم ذكره في نظيرتها.
ومن البين أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني، ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يبرزه، أنظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهبا له، ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم، بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم فقال:
وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل؟ .. ثم جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه.
فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتا كأنها مسلمة ليس عليهم وجوب الإيمان بغيره من الكتب فيقول: كيف يكون الإيمان بكتابهم باعثا على الكفر بما هو حق مثله؟ لا بل هو الحق كله، وهل يعارض الحق الحق حتى يكون الإيمان بأحدهما موجبا للكفر بالآخر؟
ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السالفة عليه كالأمر بين كل حق وحق، فقد يكون الشيء حقا وغيره حقا فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين، فلا يشهد بعضها لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهدا ومصدقا لما بين يديه من الكتب، فكيف يكذب به من يؤمن بها.
فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان: إنما هي كلمة رفعت وأخرى وضعت في مكانها عند الحاجة إليها، فكانت هذه الكلمة حسما لكل عذر، وسدا لكل باب من أبواب الهرب، بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم تمت خطوة واحدة، وفي غير ما جلبة ولا طنطنة.
ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوى الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الرد على المقصد الأصلى الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، فأوسعهم إكذابا وتفنيدا. وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضا مزمنا وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم، وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة، إذ يفهم السامع من تكذيبهم لما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين لكتابهم نفسه، وهل الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقا لك؟؟ ...
ثم انظر بعد أن سجل القرآن على بنى إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة. بعد كل ذلك تراه لا يزيد على أن يقول في أول الأمر: إن هذا «ظلم» ، وفي الثانية (بئسما) صنعتم، أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما، ولكن أين حدة الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟
بل أين الإقذاع والتشنيع؟ وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس، إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم.
تالله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجناب، وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا الكلام لا يصدر عن نفس بشر» .