ولكنهم لم يقدروا هذه النعمة، بل بلغ بهم الجهل والحمق والبطر، أنهم دعوا الله- تعالى- بقولهم- كما حكى القرآن عنهم-: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا.
أى: مع أننا بفضلنا وإحساننا قد أعطيناهم تلك النعمة، ومكانهم منها، وهي نعمة تيسير وسائل السفر، ومنحهم الأمان والاطمئنان خلاله.. إلا أنهم- لشؤمهم وضيق تفكيرهم وشقائهم- تضرعوا إلينا وقالوا: يا ربنا اجعل بيننا وبين القرى المباركة، مفاوز وصحارى متباعدة الأقطار، بدل تلك القرى العامرة المتقاربة، فهم- كما يقول صاحب الكشاف-:
بطروا النعمة، وبشموا. أى: سئموا- من طيب العيش، وملوا العافية، فطلبوا النكد والتعب، كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم، مكان المن والسلوى .
وفي هذه الجملة الكريمة قراءات متعددة ذكرها القرطبي فقال ما ملخصه: فقراءة العامة رَبَّنا- بالنصب- على أنه نداء مضاف.. باعِدْ- بزنة فاعل- سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو رَبَّنا كذلك على الدعاء بعد- بتشديد العين- من التبعيد.
وقرأ يعقوب وغيره ربنا- بالرفع- باعِدْ- بفتح العين والدال- على الخبر. أى: لقد باعد ربنا بَيْنَ أَسْفارِنا.
وقوله: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أى: قالوا ذلك القول السيئ، وظلموا أنفسهم بسببه، حيث أجيب دعاؤهم، فكان نقمة عليهم، لأنهم بعد أن كانوا يسافرون بيسر وأمان، صاروا يسافرون بمشقة وخوف.
وقوله: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ بيان لما آل إليه أمرهم.
والأحاديث: جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به الناس على سبيل التلهي والتعجب أى: قالوا ما قالوا من سوء وفعلوا ما فعلوا من منكر، فكانت نتيجة ذلك. أن صيرناهم أحاديث يتلهى الناس بأخبارهم، ويضربون بهم المثل، فيقولون: تفرقوا أيدى سبأ، ومزقناهم كل ممزق في البلاد المتعددة، فمنهم من ذهب إلى الشام، ومنهم من ذهب إلى العراق ... بعد أن كانوا أمة متحدة، يظلها الأمان والاطمئنان، والغنى والجاه ...
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي فعلناه بهم بسبب جهلهم وفسوقهم وبطرهم لَآياتٍ واضحات بينات لِكُلِّ صَبَّارٍ على طاعة الله- تعالى- شَكُورٍ له- سبحانه- على نعمه.
وخص- سبحانه- الصبار والشكور بالذكر. لأنهما هما المنتفعان بآياته وعبره ومواعظه.