قال الفخر الرازي: أعلم أنه- تعالى- لما عظم وحيه إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله:
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ...
أى: شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا وإبراهيم وموسى وعيسى.. وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر، لأنهم أكابر الأنبياء، وأصحاب الشرائع العظيمة، والأتباع الكثيرة .
والمراد بما شرعه- سبحانه- على ألسنة هؤلاء الرسل: أصول الأديان التي لا يختلف فيها دين عن دين، أو شريعة عن شريعة، كإخلاص العبادة لله- تعالى- والإيمان بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، والتحلي بمكارم الأخلاق كالصدق والعفاف.
أما ما يتعلق بفروع الشرائع، كتحليل بعض الطيبات لقوم على سبيل التيسير لهم، وتحريمها على قوم على سبيل العقوبة لهم فهذا لا يدخل في الأصول الثابتة في جميع الأديان، وإنما يختلف باختلاف الظروف والأحوال.
ويؤيد ذلك قوله- تعالى-: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً .
وقوله- سبحانه- حكاية عن عيسى- عليه السلام- وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ .
والمعنى: سن الله- تعالى- لكم- يا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم من العقائد ومكارم الأخلاق، ما سنه لنوح- عليه السلام- الذي هو أول أولى العزم من الرسل، وأول أصحاب الشرائع الجامعة.
وشرع الله- تعالى- لكم- أيضا ما أوحاه إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم من آداب وأحكام وأوامر ونواه.
وشرع لكم كذلك ما وصى به- سبحانه- أنبياءه: إبراهيم وموسى وعيسى، من وصايا تتعلق بوجوب طاعة الله- تعالى-، وإخلاص العبادة له، والبعد عن كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم.
وقوله- سبحانه-: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ تفصيل وتوضيح لما شرعه- سبحانه- لهؤلاء الكرام، ولما أوصاهم به.
والمراد بإقامة الدين: التزام أوامره ونواهيه، وطاعة الرسل في كل ما جاءوا به من عند ربهم طاعة تامة.
قال صاحب الكشاف: والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله- تعالى- وطاعته، والإيمان برسله وكتبه، وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى- لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً.
ومحل أَنْ أَقِيمُوا إما النصب على أنه بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه، وإما الرفع على الاستئناف، كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. .
أى: أوصاكم كما أوصى من قبلكم بالمحافظة على ما اشتمل عليه دين الإسلام من عقائد وأحكام وآداب.. وأصول أجمعت عليها جميع الشرائع الإلهية، كما أوصاكم بعدم الاختلاف في أحكامه التي لا تقبل الاختلاف أو التفرق.
ثم بين- سبحانه- موقف المشركين من الدين الحق فقال: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
أى: شق وعظم على المشركين دعوتكم إياهم إلى وحدانية الله- تعالى-، وإلى ترك ما ألفوه من شرك، ومن تقاليد فاسدة ورثوها عن آبائهم.
وقوله- تعالى-: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ بيان لكمال قدرته- تعالى- ونفاذ مشيئته. والاجتباء: الاصطفاء والاختيار. أى: الله- تعالى- بإرادته وحكمته يصطفى ويختار لرسالته من يشاء من عباده، ويهدى إلى الحق من ينيب إليه، ويرجع إلى طاعته- عز وجل- ويقبل على عبادته.