وبعد أن ساق- سبحانه- دليلا عقليا على وحدانيته، أتبعه بدليل آخر نقلي، فقال- تعالى-: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ، هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ...
قال الآلوسى ما ملخصه: هذا إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة، لخلوها من خصائصها التي من جملتها الإنشار، إلى تبكيتهم ومطالبتهم بالبرهان على دعواهم الباطلة، وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد، وبطلان الإشراك.. .
أى: إن هؤلاء الكافرين قد أشركوا مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة، بسبب جهلهم وعنادهم وجحودهم للحق.. قل لهم- أيها الرسول الكريم- على سبيل التبكيت والتوبيخ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على أن مع الله- تعالى- آلهة أخرى تستحق مشاركته في العبادة والطاعة؟ ولا شك أنهم لا برهان لهم على ذلك.
وقوله- تعالى-: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي زيادة في تبكيتهم وفي إظهار عجزهم، أى: هذا الوحى الإلهى الناطق بتوحيد الله- تعالى- موجود في القرآن الكريم المشتمل على ذكر المعاصرين لي من أتباعى، وموجود في كتب الأنبياء السابقين، كالتوراة التي أنزلها الله على موسى، والإنجيل الذي أنزله على عيسى، فمن أين أتيتم أنتم بهؤلاء الشركاء، وكيف اتخذتموهم آلهة مع أنهم لا برهان عليهم لا من جهة العقل ولا من جهة النقل؟
فاسم الإشارة هذا في قوله: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ مبتدأ، مشار به إلى الوحى الإلهى، وقد أخبر عنه- سبحانه- بخبرين- كما يقول الشيخ الجمل-: «فبالنظر للخبر الأول يراد به القرآن، وبالنظر للخبر الثاني يراد به ما عداه من الكتب السماوية» .
وقوله- تعالى-: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ إضراب من جهته- تعالى- عن مناقشتهم ومطالبتهم بالبرهان، وانتقال من الأمر بتبكيتهم إلى الأمر بإهمالهم استصغارا لشأنهم.
أى: دعهم- أيها الرسول الكريم- في باطلهم يعمهون فإنهم قوم أكثرهم يجهلون الحق، ولا يستطيعون التمييز بينه وبين الباطل. فهم لأجل ذلك منصرفون عن الهدى، ومتجهون إلى الضلال، ومن جهل شيئا عاداه.