ثم بين - سبحانه - المصير الشنيع الذى سيصير إليه المنافقون يوم القيامة فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } أى: فى الطبقة السفلى من طبقاتها وسميت دركاتها لكونها متداركه أى: متتابعة بعضها تحت بعض. والدرك لغة فى الدرك وهو كالدرج، إلا أن الدرج يقال باعتبار الصعود. والدرك يقال باعتبار النزول والحدور. ولذا قيل: درجات الجنة ودركات النار.
قال الآلوسى: والنار لها طبقات سبع: تسمى الأولى كما قيل: جهنم: والثانية: لظى. والثالثة: الحطمة. والرابعة: السعير. والخامسة: سقر. والسادسة: الجحيم. والسابعة: الهاوية. وقد تسمى النار جميعاً باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها...
والمعنى: إن هؤلاء المنافقين الذين مردوا على النفاق. وسرى فى طباعهم مسرى الدم سيكونون يوم القيامة فى الطبقة السفلى من النار، ولن تجد لهم نصيراً ينصرهم من عذاب الله أو يدفع عنهم عقابه.
وإنما كان للمنافقين هذا العذاب الشديد، لأنهم أضافوا إلى كفرهم، الاستهزاء بالإِسلام وأهله، وجمعوا بسوء طباعهم بين الكفر. والفسق والتضليل، والخداع، وإشاعة الفاحشة فى صفوف المؤمنين، وغير ذلك من رذائلهم المتعددة، وقبائحهم المتنوعة.
قال بعض العلماء: ولكن من هو المنافق الذى يستحق أشد العقاب، ويكون فى أعمق النيران يوم القيامة؟ نقول فى الجواب عن ذلك: إنه المنافق الخالص الذى لم يكن فيه خصلة أو أكثر من خصلة فقط، ولكن هو الذى كفر بالله وبالرسالة المحمدية، ولم يكتف بذلك بل أظهر الإِسلام ليفسد بين المسلمين ويتعرف أسرارهم.
ذلك أن النفاق درجات هذا أعلاها، وهو أشد الكفر. ودونه بعد ذلك مراتب تكون بين المسلمين ولا تخرج المسلم عن إسلامه، وإن كانت تجعل إيمانه ضعيفا. ومن ذلك ممالأة الحكام، والسكوت عن كلمة الحق مع النطق بالباطل ملقا وخداعا.
قيل لابن عمر - رضى الله عنهما -: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه!! فقال: كنا نعده من النفاق.
ولقد جاء فى الحديث الشريف ما يفيد أن المنافقين فريقان: فريق خصل للنفاق، وهذا منكوس القلب والنفس والفكر. وقسم فيه خصلة من النفاق، وهذا يتنازعه الخير والشر. فقد قال - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه الإِمام أحمد. " القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر. وقلب أغلف مربوط على غلافه. وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد، فقلب المؤمن سراجه فيه نوره. وأما القلب الأغلف: فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس: فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح: فقلب فيه إيمان ونفاق. ومثل الإِيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب. ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم. فأى المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه ".
وإننا لهذا نقول: إن النفاق فى داخل الإِسلام مراتب. وأعلاها أولئك الذين يتملقون الحكام، وينحدرون إلى درجة وضعهم فى مقام النبيين. ومنهم من يذهب به فرط نفاقه، فيفضل بعض عملهم على عمل النبيين، وهؤلاء نتردد فى الحكم بأنهم مسلمون. وقريب منهم الذين يتأولون النصوص من غير حجة فى التأويل. ويعبثون بظواهرها القاطعة لهوى الحكام.