روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه أبو داود والنسائي عن على بن أبى طالب أنه كان هو وعبد الرحمن بن عوف ورجل آخر، قد شربوا الخمر. فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: قل يا أيها الكافرون. فخلط فيها. فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى.
وروى الترمذي وابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر. فأخذت الخمر منا. وحضرت الصلاة. فقدموا فلانا. قال:
فقرأ: قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون. فأنزل الله الآية.
قال ابن كثير: وقد كان هذا النهى قبل تحريم الخمر. كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله- تعالى- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. الآية» فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة- وفي رواية لأبى داود: فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادى: لا يقربن الصلاة سكران- حتى نزل قوله- تعالى- في سورة المائدة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ. إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر: انتهينا.
انتهينا) .
والمراد بالصلاة عند كثير من العلماء: الهيئة المخصوصة من قراءة وقيام وركوع وسجود.
والمراد بقربها: القيام إليها والتلبس بها، إلا أنه- سبحانه- نهى عن القرب منها مبالغة في النهى عن غشيانها وهم بحالة تتنافى مع جلالها والخشوع فيها.
وقوله سُكارى جمع سكران.
وأصل السكر في اللغة السد. ومنه قولهم سكرت الطريق أى سددته. ومنه قوله- تعالى- حكاية عن الكافرين وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أى: انسدت فصارت لا ينفذ إليها النور، ولا ندرك الأشياء على حقيقتها.
والمراد بالسكر هنا الحالة التي تحصل لشارب الخمر والتي يفقد معها وعيه، ويسد ما بين المرء وعقله.
والجنب: من أصابته الجناية بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما. وهذا اللفظ يستوي فيه- على الصحيح- الواحد، والمثنى، والجمع، والمذكر والمؤنث لجريانه مجرى المصدر، واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة.
وعابر السبيل: مجتاز الطريق وهو المسافر. أو من يعبر الطريق من جانب إلى جانب.
يقال: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا. ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن تؤدوا الصلاة وأنتم في حالة السكر. حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقولونه قبل أدائها، ولا في حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمموا لكي تؤدوها.
ومن العلماء من يرى أن المراد بالصلاة هنا: مواضعها وهي المساجد. فالكلام مجاز مرسل بتقدير مضاف فهو من باب ذكر الحال وإرادة المحل.
والمعنى عليه: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم سكارى، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا إلا أن تكونوا تريدون اجتيازها من باب إلى آخر من غير مكث فيها فإنه يجوز لكم ذلك.
روى ابن جرير عن الليث قال: حدثنا يزيد بن أبى حبيب عن قول الله- تعالى-:
وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء. ولا يجدون ممرا إلا في المسجد. فأنزل الله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ .
وقال بعض العلماء: وبالجملة فالحال الأولى أعنى قوله وَأَنْتُمْ سُكارى تقوى بقاء الصلاة على معناها الحقيقي، من دون تقدير مضاف: وقوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يقوى تقدير المضاف. أى: لا تقربوا موضع الصلاة.
ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهى- وهو قوله: وَأَنْتُمْ سُكارى يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي.
وبعض قيود النهى- وهو قوله: إلا عابري سبيل- يدل على أن المراد مواضع الصلاة.
ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه. ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد. وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى.
ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب.
وغاية ما يقال في هذا إنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز» .
وفي ندائهم بصفة الإيمان، تحريك لحرارة العقيدة في قلوبهم، وتوجيه لنفوسهم إلى ما يستدعيه الإيمان من طاعة واستجابة لله رب العالمين.
وقوله وَأَنْتُمْ سُكارى جملة حالية. أى لا تقربوها في حال السكر، لأن ذلك يتنافى مع الإيمان السليم، ومع ما تستحقه الصلاة من خشوع واستحضار للقلب. وإنما الذي يقتضيه إيمانكم وحياؤكم من الله أن تدخلوا في الصلاة وأنتم بكامل وعيكم، واستحضاركم لما يستلزمها من خشوع وأدب.
ولا شك أن هذا كان قبل أن ينزل التحريم القاطع لشرب الخمر في جميع الأوقات كما سبق أن أشرنا.
وقوله حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ غاية للنهى وإيماء إلى علته.
وحتى هنا حرف جر بمعنى إلى، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة. وما في قوله ما تَقُولُونَ موصولة بمعنى الذي أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى تقولونه.
أى: حتى تعلموا ما تقولونه علما يقينيا لا غلط معه ولا تخليط، بأن تعقلوا ما اشتملت عليه الصلاة من تكبير وقراءة وتسبيح ودعاء وغير ذلك مما تقتضيه الصلاة.
قال الآلوسى: وقد روى أنهم كانوا بعد ما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون» .
وقوله وَلا جُنُباً معطوف على قوله وَأَنْتُمْ سُكارى إذ الجملة في موضع النصب على الحال. والاستثناء في قوله إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مفرغ من أعم الأحوال.
وقوله حَتَّى تَغْتَسِلُوا بيان لغاية المنع بالنسبة للجنب.
والاغتسال: تعميم الجسد كله بالماء. وهو بعد الجنابة طهارة حسية وتنشيط للبدن بعد أن أصابه بعض التعب بسبب الأفعال التي أدت إلى الجنابة. وهو كذلك طهارة نفسية، لأنه يبعث في الإنسان حسن الاستعداد لذكر الله ولأداء الصلاة بعد أن استحكمت الشهوة وسيطرت على صاحبها لفترة من الوقت. فبالاغتسال بعد قضاء الشهوة يتجدد للبدن نشاطه، وللروح صفاؤها وحسن استعدادها لطاعة الله.
ثم شرع- سبحانه- في بيان الأعذار التي تبيح التيمم عند العجز عن الماء فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى، أَوْ عَلى سَفَرٍ، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ، فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً والمراد بالمرض في قوله- تعالى-: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى: المرض الذي يمنع من استعمال الماء مطلقا، كأن يكون استعمال الماء يزيد المرض شدة، أو يبطئ البرء، فإن الله- تعالى- قد أباح للمريض في هذه الأحوال وأمثالها أن يتيمم بدل الوضوء أو الغسل. كما أباح له- أيضا- أن يتيمم عند فقد الماء أو ما في حكم ذلك.
وقوله: أَوْ عَلى سَفَرٍ في محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله: مَرْضى.
أى: وكذلك أباح الله لكم التيمم عند السفر إذا لم تجدوا ماء، أو كان معكم من الماء ما أنتم في حاجة شديدة إليه، أو كان هناك ما يمنع من استعمال الماء.
وقوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ معطوف على قوله: كُنْتُمْ.
والغائط من الغيط. وهو المكان المنخفض من الأرض. وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت على أن من يريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس.
وفي إسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين، سمو في الخطاب، حيث تحاشى- سبحانه- التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو ما يستهجن التصريح به.
أى وكذلك أباح الله لكم التيمم إن كنتم محدثين ولم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث.
أو تجدونه ولكن هناك ما يمنعكم من استعماله.
والمراد بالملامسة في قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ الجماع عند بعض الفقهاء قال الآلوسى ما ملخصه: قوله- تعالى- أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يريد- سبحانه-: أو جامعتم النساء.
إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع، لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحيى منه. وإليه ذهب ابن عباس والحسن وغيرهما.
وعن ابن مسعود أن المراد بالملامسة ما دون الجماع. أى ماسستم بشرتهن ببشرتكم. وبه استدل الشافعى على أن اللمس ينقض الوضوء.
وقال مالك: إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا....
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة ... » والفاء في قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى. والضمير في قوله تَجِدُوا يعود لكل من تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس. وفيه تغليب للخطاب على الغيبة. وذلك أنه تقدم ضمير الغيبة في قوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ بينما تقدم ضمير المخاطب في قوله كُنْتُمْ أَوْ لامَسْتُمُ.
والمراد بعدم الوجدان هنا ما هو أعم من الوجود الحسى. أى أن قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا، إذ أن الشيء المتعذر استعماله كالمعدوم.
وقوله فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً جواب الشرط وهو قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ.
والمعنى: وإن كنتم أيها المؤمنون في حالة مرض أو على سفر أو كنتم محدثين أو لامستم النساء فلم تجدوا في تلك الأحوال ما تستعملونه لطهارتكم، أو وجدتم ماء ولكن منعكم مانع من استعماله، فعليكم أن تتيمموا صعيدا طيبا، بدلا من الماء، فان الله- تعالى- ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً يعود إلى الجمع ما عدا المرضى، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله.
وعلى هذا الرأى يكون المراد بعدم الوجدان. عدم الوجدان الحسى.
والتيمم لغة: القصد. يقال تيممت الشيء أى قصدته.
ويطلق في الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به.
وأما الصعيد- بوزن فعيل- فيطلق على وجه الأرض البارز، ترابا كان أو غيره. وقيل يطلق على التراب خاصة.
والطيب: الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر.
أى: إذا لم تجدوا ماء للتطهر به أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله فاقصدوا ترابا طاهرا بارزا على وجه الأرض لكي تستعملوه في طهارتكم عوضا عن الماء.
وقوله فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ بيان لكيفية التيمم.
أى: اقصدوا ترابا على ظاهر الأرض طاهرا فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم.
وقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تذييل قصد به بيان أنه- سبحانه- متصف بالعفو فلا يختار لعباده إلا السهل اليسير الذي يسهل عليهم أداؤه من غير مشقة مرهقة، وأنه هو الغفار الذي يغفر للمقصرين والمخطئين ذنوبهم متى تابوا إليه واستغفروه مما صدر عنهم من ذنوب.
هذا ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
1- أن من الواجب على المسلم عند ما يتهيأ للصلاة أن يتجنب كل ما يتعارض مع الخشوع فيها، لأن الصلاة مناجاة ووقوف بين يدي الله- تعالى-، ومن شأن المناجى لله- تعالى- أن يتفرغ لذلك، وأن يكون على درجة من العلم والفهم تمكنه من الوقوف الخاشع بين يدي الله رب العالمين.
2- أن الصلاة محرمة على السكران حال سكره حتى يصحو. فإذا أداها حال سكره تكون باطلة، وكذلك الحكم بالنسبة للمحدث أو الجنب حتى يتطهر.
3- استدل بهذه الآية- من قال بأن المراد بالصلاة مواضعها- على أنه يحرم على السكران دخول المسجد، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول، ويقاس عليه كل ذي نجاسة يخشى معها التلويث والسباب ونحوه.
4- استدلوا بقوله- تعالى-: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ على أن المسلم منهى عن الصلاة حال النعاس أو ما يشبهه، لأنه في هذه الحالة لا يعلم ما يقول ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم. فان أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يستغفر فيسب نفسه) .
وروى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ) .
قال الفخر الرازي ما ملخصه: ويرى الضحاك أنه ليس المراد من لفظ سُكارى السكر من الخمر، وإنما المراد منه سكر النوم. لأن لفظ السكر يستعمل في النوم فكان هذا اللفظ محتملا له....
ثم قال الرازي: واعلم أن القول الصحيح هو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وهو أن المراد من لفظ سُكارى السكر من الخمر، لأن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة ... ، ولأن جميع المفسرين قد اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر ... )
5- استدلوا بقوله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، إلا أنه يجوز له المرور فيه.
قال ابن كثير ما ملخصه: قال ابن عباس في قوله وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل. أى: تمر به مرا ولا تجلس.
وروى ابن جرير عن يزيد بن أبى حبيب في قوله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون مرورا إلا في المسجد. فأنزل الله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ويشهد لصحة ذلك ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبى بكر ... )
وبهذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضا متى أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور ...
ثم قال ابن كثير: وقوله حَتَّى تَغْتَسِلُوا دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعى من أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله. وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد، لما روى من أن صحابة كانوا يفعلون ذلك. وعن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنون إذا توضأوا وضوء الصلاة. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم) .
6- ظاهر قوله- تعالى- فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا يفيد أن التيمم لا يصح مع وجود الماء، لأن الآية الكريمة قد رتبت الأمر بالتيمم على نفى وجود الماء.
ولكن هذا الظاهر غير مراد، لأنه يقتضى أنه حتى لو وجدنا ماء، وكنا في حاجة شديدة إليه، أو لا نقدر على استعماله فإنه لا يجوز لنا أن نتيمم، وهذا يتعارض مع سماحه الشريعة الإسلامية ويسرها، قال- تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال- تعالى-: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
ويتعارض كذلك مع ما شرع من أجله التيمم وهو التيسير على الناس، والتيسير على الناس لا يتأتى بإلزامهم أن يفقدوا ما معهم من الماء في الطهارة ليقعوا في العنت بسبب العطش أو الجوع. أو بإلزامهم استعمال الماء في طهارتهم مع أن في استعماله مضرة بهم.
لذا قال العلماء: إن التيمم مشروع للمسلم عند فقده للماء، أو عند وجود الماء ولكن هناك عارض يمنعه من استعماله كمرض أو نحوه.
ولقد ورد في السنة النبوية الشريفة ما يشهد بأنه يجوز للمسلم أن يتيمم مع وجود الماء متى كان هناك ما يمنع من استعماله.
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والدارقطني عن جابر قال: خرجنا في سفر. فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه فقال هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا:
ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه، قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده» .
وروى أبو داود والدارقطني عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك. فتيممت. ثم صليت بأصحابى الصبح. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عمرو صليت بأصحابى وأنت جنب» ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إنى سمعت الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا» .
قال القرطبي- بعد أن ساق هذا الحديث والذي قبله-: فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف من المرض- عند استعمال الماء-: وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم، وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين. وهذا أحد القولين عندنا. وهو الصحيح الذي أقره مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات .
وقال ابن كثير: وقد استنبط كثير من الفقهاء من الآية أنه لا يجوز التيمم لعدم الماء إلا بعد طلب الماء. فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم. وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع ... » .
7- أخذ الشافعية والحنابلة من قوله- تعالى- فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً: أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب» ولأنه ثبت في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا. وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» قالوا:
فخصص الطهور بالتراب في مقام الامتنان. فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه.
ويرى الإمام أبو حنيفة أن التيمم يجوز بالتراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض متى كان طاهرا. قالوا: لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض وهذه الصفة لا تختص بالتراب.
وتوسع الإمام مالك فذهب إلى أن التيمم يجوز بكل ما سبق وبغيره كالشجر والحجر والنبات لأن الصعيد عنده كل ما صعد على وجه الأرض.
قال القرطبي عند حديثه عن اختلاف الفقهاء في ذلك: وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع فيما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا منصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره. ومنع وهو مذهب الشافعى وغيره....» .
8- أفاد قوله- تعالى- فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أن الواجب في التيمم هو مسح الوجه واليدين فقط سواء أكان التيمم بدلا عن الوضوء أم عن الغسل.
قال القرطبي: وروى التيمم إلى المرفقين عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبد الله، وابن عمر وبه كان يقول: قال الدارقطني: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: كان ابن عمر يقول: إلى المرفقين. وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان: إلى المرفقين.
ثم قال: وقالت طائفة يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان. روى ذلك عن على بن أبى طالب والأوزاعى وعطاء والشعبي في رواية. وبه قال أحمد ابن حنبل، والطبري.
وقال مكحول: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال الزهري: المسح إلى الآباط.
وقال ابن أبى الجهم: التيمم بضربة واحدة، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري .
9- ذكر المفسرون في سبب مشروعية التيمم روايات منها ما أخرجه البخاري عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره: حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه. وليسوا على ماء. وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبى بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟
أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. قالت عائشة: فعاتبنى أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. فجعل يطعننى بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء. فأنزل الله آية التيمم. فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبى بكر.
قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته» .
قال الحافظ ابن كثير عند ذكره هنا لسبب مشروعية التيمم، وإنما ذكرنا ذلك هاهنا، لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة في النزول على آية سورة المائدة وبيانه: أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر. والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير، في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبنى النضير. وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ولا سيما صدرها. فناسب أن يذكر السبب هنا ..
10- تكلم بعض العلماء عن حكمة مشروعية التيمم عوضا عن الطهارة بالماء فقال:
والتيمم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي- فذكر منها- وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» .
والتيمم بدل جعله الشرع عن الطهارة. ولم أر لأحد من العلماء بيانا في حكمة جعل التيمم عوضا عن الطهارة بالماء، وكان ذلك من همي زمنا طويلا وقت الطلب. ثم انفتح لي حكمة ذلك.
وأحسب أن حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين. وتقرير حرمة الصلاة وترفيع شأنها في نفوسهم. فلم تترك لهم حالة يعدون فيها أنفسهم مصلين بدون طهارة تعظيما لمناجاة الله- تعالى- فلذلك شرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهرين، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صعيد الأرض التي هي منبع الماء. ولأن التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها، ينظفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وما عونهم. وما الاستجمار إلا من ضرب ذلك، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنه مطالب به عند زوال مانعه. وإذ قد كان التيمم طهارة رمزية اكتفت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى كما دل عليه حديث عمار بن ياسر فقد ثبت في الصحيح عن عمار بن ياسر قال: كنت في سفر فأجنبت فتمعكت في التراب «أى تمرغت» وصليت. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «يكفيك الوجه والكفان» . ويؤيد هذا المقصد أن المسلمين لما عدموا الماء في غزوة المريسيع صلوا بدون وضوء فنزلت آية التيمم.
هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعية التيمم بعد طول البحث والتأمل في حكمة مقنعة في النظر .
وبعد، فهذه بعض الأحكام والآداب التي اشتملت عليها تلك الآية، ومنها نرى كيف وجهت المؤمنين إلى ما يقوى إيمانهم، ويصفى نفوسهم، ويبعدهم عن الأسباب التي تحول بينهم وبين إخلاص المناجاة لله رب العالمين، وإلى ما يجعلهم يتحرزون عن كل ما يدنسهم أو يلهيهم عن طاعة الله.
كما ترى كيف استعملت في خطابها للمؤمنين ألطف الكنايات وأسمى التعبيرات، وأبلغ الإشارات، وفي ذلك ما فيه من تربية سليمة للمؤمنين تجعلهم يسعدون في دنياهم وآخرتهم.
هذا، وأنت إذا تدبرت السورة الكريمة من مطلعها إلى هنا، تراها قد نظمت العلاقات بين أفراد المجتمع الإسلامى تنظيما حكيما، وساقت لهم من التوجيهات السامية، والآداب العالية، والتشريعات الجليلة ... ما يجعلهم يعيشون في أمان واطمئنان.
ثم أخذت السورة بعد ذلك تسوق لنا في أكثر من عشر آيات، ألوانا من رذائل أهل الكتاب، ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية، ومن حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله، وتوعدتهم بسوء المصير على ما اقترفوه من منكرات وآثام ...
وكأن السورة الكريمة بعد أن نظمت المجتمع الإسلامى هذا التنظيم الداخلى السليم، أخذت في تحذير المؤمنين من عدوهم الخارجي، وأطلعتهم على ما يضمره لهم أهل الكتاب من كراهية وبغضاء.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول: