وقوله- سبحانه-: مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أى: عذبوا وأوذوا من أجل أن يرتدوا إلى الكفر.
وأصل الفتن: إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته، ثم استعمل في الاختبار والامتحان بالمحن والشدائد، وبالمنح واللطائف، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة، وأكثر ما تستعمل الفتنة في الامتحان والمحن وعليه يحمل بعضهم تفسير الفتنة بالمحنة.
والمراد بهؤلاء الذين هاجروا من بعد ما فتنوا- كما يقول ابن كثير- جماعة كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم، فوافقوهم على الفتنة، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا.. .
والمعنى: «ثم إن ربك» - أيها الرسول الكريم- تكفل بالولاية والمغفرة لهؤلاء الذين هاجروا من دار الكفر إلى دار الإسلام، من بعد أن عذبهم المشركون لكي يرتدوا عن دينهم.
قال الآلوسى: وقرأ ابن عامر مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا بالبناء للفاعل، وهو ضمير المشركين عند غير واحد، أى: عذبوا المؤمنين، كالحضرمى، أكره مولاه «جبرا» حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا.. .
وقوله- تعالى-: ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا أى جاهدوا المشركين حتى تكون كلمة الله هي العليا، وصبروا على البلاء والأذى طلبا لرضا الله- تعالى-.
والضمير في قوله: مِنْ بَعْدِها يعود إلى ما سبق ذكره من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر. أى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- من بعد هذه الأفعال لكثير المغفرة والرحمة لهم، جزاء هجرتهم وجهادهم وصبرهم على الأذى.