ثم أرشد- سبحانه- إلى مظهر آخر من مظاهر وحدانيته، وعظيم قدرته وعجيب صنعه، وسعة رحمته، حيث خلق للناس الأنعام، وسقاهم من ألبانها، فقال- تعالى-: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً....
والأنعام: تطلق على الإبل والبقر والغنم من الحيوان، ويدخل في الغنم المعز.
والعبرة: مصدر بمعنى العبور، أى: التجاوز من محل إلى آخر، والمراد بها هنا: العظة والاعتبار والانتقال من الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى اليقظة.
أى: وإن لكم- أيها الناس- في خلق الأنعام، وفيما يخرج منها من ألبان لعبرة عظيمة، وعظة بليغة، ومنفعة جليلة توجب عليكم إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، ومداومة الشكر له على نعمه. فالتنكير في قوله لَعِبْرَةً للتفخيم والتهويل.
وقوله- تعالى-: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ استئناف بيانى، كأنه قيل: وما وجه العبرة في الأنعام؟ فكان الجواب: نسقيكم مما في بطونه.
قال الآلوسى: والضمير في «بطونه» يعود للأنعام، وهو اسم جمع، واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه، ويجوز تأنيثه وجمعه باعتبار معناه ... ».
وقوله- سبحانه-: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ بيان لموطن العبرة ومحل النعمة، ومظهر الدلالة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته ورحمته..
والفرث: الطعام المتبقى في أمعاء الحيوان بعد هضمه. وأصل الفرث: التفتيت. يقال فرثت كبده. أى: فتتتها.
قال الجمل ما ملخصه: والفرث: الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش- بفتح الكاف وكسر الراء- فإذا خرجت من الكرش لا تسمى فرثا بل تسمى روثا. وقوله لَبَناً مفعول ثان لنسقيكم، والأول هو الكاف» .
والخالص: النقي الصافي الخالي من الشوائب والأكدار. يقال خلص الشيء من التلف خلوصا- من باب قعد- إذا سلم منه.
والسائغ: اللذيذ الطعم، السهل المدخل الى الحلق. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغا.
من باب قال- إذا سهل مدخله في الحلق.
أى: نسقيكم من بين الفرث والدم الذي اشتملت عليه بطون الأنعام، «لبنا» نافعا لأبدانكم «خالصا» من رائحة الفرث، ومن لون الدم، مع أنه موجود بينهما «سائغا للشاربين» بحيث يمر في الحلوق بسهولة ويسر، ويشعر شاربه بلذة وارتياح.
وقدم- سبحانه- قوله: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ على قوله لَبَناً، لأن خروج اللبن من بينهما هو موطن العبرة، وموضع الدليل الأسمى على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته.
قال صاحب الكشاف: قوله- تعالى-: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ أى: يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله- تعالى-، بحيث لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله ... فسبحان الله ما أعظم قدرته، وألطف حكمته، لمن تفكر وتأمل. وسئل «شقيق» عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم.
ثم قال- رحمه الله-: فإن قلت: أى فرق بين «من» الأولى والثانية؟.
قلت: الأولى للتبعيض، لأن اللبن بعض ما في بطونها ... والثانية لابتداء الغاية، لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ ...
وإنما قدم قوله: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لأنه موضع العبرة، فهو قمن بالتقديم» .
وقال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية: «ومن تدبر في بدائع صنع الله- تعالى- فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها، والأسباب المولدة لها، وتسخير القوى المتصرفة فيها ... اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه- سبحانه- وقدرته، وحكمته، وتناهى رأفته ورحمته:
حكم حارت البرية فيها ... وحقيق بأنها تحتار
والحق، أن هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة على وحدانية الله تعالى ونفاذ قدرته، وعجيب صنعته، حيث استخرج- سبحانه- من بين فرث ودم في بطون الأنعام، لبنا خالصا سائغا للشاربين.
وهذا الاستخراج قد تكلم العلماء المتخصصون عن كيفيته وعن مراحله.. كلاما يقوى إيمان المؤمنين، ويدفع باطل الملحدين.
هذا، وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن اللبن نعمة جزيلة من نعم الله- تعالى- على خلقه.
قال القرطبي ما ملخصه: «روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، ثم قال: «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل، اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، وإذا سقى لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه، فإنه ليس شيء يجزئ عن الطعام والشراب إلا اللبن» .
ثم قال الإمام القرطبي: قال علماؤنا: فكيف لا يكون كذلك، وهو أول ما يغتذى به الإنسان، وتنمو به الأبدان، فهو قوت به قوام الأجسام، وقد جعله الله- تعالى- علامة لجبريل على هداية هذه الأمة، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن. فقال لي جبريل: اخترت الفطرة ... ».