ثم ساق- سبحانه- دليلا آخر على انفراده بالألوهية عن طريق خلق الإنسان فقال:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.
والمراد بالإنسان هنا جنس الإنسان.
وأصل النطفة: الماء الصافي. أو الماء القليل الذي يبقى في الدلو أو القربة، وجمعها: نطف ونطاف. يقال: نطفت القربة إذا قطرت، أى سال منها الماء وتقاطر.
والمراد بالنطفة هنا: المنى الذي هو مادة التلقيح من الرجل للمرأة.
والخصيم: الكثير الخصام لغيره، فهو صيغة مبالغة. يقال: خصم الرجل يخصم- من باب تعب- إذا أحكم الخصومة، فهو خصم وخصيم.
والمبين. المظهر للحجة، المفصح عما يريده بألوان من طريق البيان.
أى: خلق- سبحانه- الإنسان. من منىّ يمنى، أو من ماء مهين خلقا عجيبا في أطوار مختلفة، لا يجهلها عاقل، ثم أخرجه بقدرته من بطن أمه إلى ضياء الدنيا، ثم رعاه برعايته ولطفه إلى أن استقل وعقل.
حتى إذا ما وصل هذا الإنسان إلى تلك المرحلة التي يجب معها الشكر لله- تعالى- الذي رباه ورعاه، إذا به ينسى خالقه، ويجحد نعمه، وينكر شريعته، ويكذب رسله ويخاصم ويجادل بلسان فصيح من بعثه الله- تعالى- لهدايته وإرشاده، ويقول- كما حكى القرآن عنه-: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ...
وإذا في قوله- سبحانه- فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. هي التي تسمى بإذا الفجائية التي يؤتى بها لمعنى ترتب الشيء، على غير ما يظن أن يترتب عليه.
وجيء بها هنا لزيادة التعجيب من حال الإنسان، لأنه كان المنتظر منه بعد أن خلقه الله- تعالى- بقدرته، ورباه برحمته ورعايته، أن يشكر خالقه على ذلك، وأن يخلص العبادة له، لكنه لم يفعل ما كان منتظرا منه، بل فعل ما يناقض ذلك من الإشراك والمجادلة في أمر البعث وغيره.
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله- تعالى-: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا .
وقوله- تعالى-: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً .