وبعد أن بين- سبحانه- أنجع أساليب الدعوة إلى سبيله في حالة المسالمة والمجادلة بالحجة والبرهان، أتبع ذلك ببيان ما ينبغي على المسلم أن يفعله في حالة الاعتداء عليه أو على دعوته فقال- تعالى-: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ....
أى: وإن أردتم معاقبة من ظلمكم واعتدى عليك، فعاقبوه بمثل ما فعله بكم، ولا تزيدوا على ذلك، فإن الزيادة حيف يبغضه الله- تعالى-.
ثم أرشدهم- سبحانه- إلى ما هو أسمى من مقابلة الشر بمثله فقال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
والضمير في قوله لَهُوَ يعود إلى المصدر في قوله صَبَرْتُمْ، والمصدر إما أن يراد به الجنس فيكون المعنى: ولئن صبرتم فالصبر خير للصابرين، وأنتم منهم.
وإما أن يراد به صبرهم الخاص فيكون المعنى: ولئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل، لصبركم خير لكم، فوضع- سبحانه- الصابرين موضع لكم على سبيل المدح لهم، والثناء عليهم بصفة الصبر.
هذا، وقد ذكر جمع من المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في أعقاب غزوة أحد، بعد أن مثل المشركون بحمزة- رضى الله عنه-.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: روى الحافظ البزار عن أبى هريرة- رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد. فنظر الى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه.
وقد مثل المشركون به. فقال صلى الله عليه وسلم: رحمة الله عليك، لقد كنت وصولا للرحم، فعولا للخيرات. والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع. أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك. فنزلت هذه الآية. فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه.
ثم قال ابن كثير بعد روايته لهذا الحديث: وهذا إسناد فيه ضعف لأن أحد رواته وهو «صالح بن بشير المري» ضعيف عند الأئمة. وقال البخاري هو منكر الحديث.
ثم قال ابن كثير- رحمه الله-: وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أبى بن كعب، قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا، ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كان لنا يوم مثل هذا اليوم من المشركين لنمثلن بهم، فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم. فنادى مناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأبيض والأسود إلا فلانا وفلانا- ناسا سماهم-، فنزلت الآية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نصبر ولا نعاقب» .
والذي نراه أن الآية الكريمة- حتى ولو كان سبب نزولها ما ذكر- إلا أن التوجيهات التي اشتملت عليها صالحة لكل زمان ومكان، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعلى رأس هذه التوجيهات السامية التي اشتملت عليها: دعوة المسلمين الى التزام العدالة في أحكامهم، وحضهم على الصبر والصفح ما دام ذلك لا يضر بمصلحتهم ومصلحة الدعوة الإسلامية.
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله- تعالى-: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها، فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ... .