وقوله- تعالى-: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ معطوف على يُبَشِّرُكِ أى: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه.. وإن الله يعلم ذلك المولود- المعبر عنه بالكلمة- الكتاب، وقرأ بعضهم ونعلمه الكتاب.. وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة معمولة لقول محذوف من كلام الملائكة أى ويقول الله- تعالى- ونعلمه.. وتكون في المعنى معطوفة على الحال وهي قوله «وجيها» فكأنه قال: وجيها ومعلما.
وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون الجملة مستأنفة سيقت تطييبا لقلب مريم، وإراحة لما أهمها من خوف الملامة حين علمت أنها تلد من غير أن يمسها بشر.
ولقد حكى القرآن عنها في سورة مريم قولها بتحسر وألم عند ما جاءها المخاض يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا.
والمراد بالكتاب الكتابة والخط. فإن عيسى- عليه السّلام- قد بعثه الله- تعالى- في أمة ارتقت فيها ألوان العلم والمعرفة فأكرمه الله بأن جعله يفوق غيره في هذه النواحي. وقيل المراد بالكتاب جنس الكتب الإلهية.
قال الفخر الرازي: «والأقرب عندي أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة. ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومجموعهما هو المسمى بالحكمة، ثم بعد أن صار علما بالخط والكتابة ومحيطا بالعلوم العقلية والشرعية يعلمه التوراة. وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة، لأن التوراة كتاب إلهى فيه أسرار عظيمة والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث عن أسرار الكتب الإلهية. ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل. وإنما أخر ذكر الإنجيل عن التوراة لأن من تعلم الخط، ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي نزل على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله عليه بعد ذلك كتابا آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية» .