فأنت إذا تأملت في هذه الآيات الكريمة تراها قد حكت عن طائفة من أهل الكتاب طريقة ماكرة لئيمة، هي تظاهرهم بالإسلام لفترة من الوقت ليحسن الظن بهم من ليس خبيرا بمكرهم وخداعهم، حتى إذا ما اطمأن الناس إليهم جاهروا بكفرهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه، ليوهموا حديثي العهد بالإسلام أو ضعاف الإيمان، أنهم قوم يبحثون عن الحقيقة، وأنهم ليس عندهم أى عداء للنبي صلّى الله عليه وسلّم بل إن الذي حصل منهم هو أنهم بعد دخولهم في الإسلام وجدوه دينا باطلا وأنهم ما عادوا إلى دينهم القديم إلا بعد الفحص والاختبار وإمعان النظر في دين الإسلام.
ولا شك أن هذه الطريقة التي سلكها بعض اليهود لصرف بعض المسلمين عن الإسلام من أقوى ما تفتق عنه تدبيرهم الشيطاني، لأن إعلانهم الكفر بعد الإسلام، وبعد إظهارهم الإيمان به، من شأنه أن يدخل الشك في القلوب ويوقع ضعاف الإيمان في حيرة واضطراب، خاصة وأن العرب- في مجموعهم- قوم أميون ومنهم من كان يعتقد أن اليهود أعرف منهم بمسائل العقيدة والدين. فيظن أنهم ما ارتدوا عن الإسلام إلا بعد اطلاعهم على نقص في تعاليمه.
والمتتبع لمراحل التاريخ قديما وحديثا يرى أن الدهاة في السياسة والحرب يتخذ هذه الخدعة ذريعة لإشاعة الخلل والاضطراب في صفوف أعدائه.
قال الأستاذ الشيخ محمد عبده- رحمه الله: «هذا النوع الذي تحكيه الآيات من صد اليهود عن الإسلام مبنى على قاعدة طبيعية في البشر، وهي أن من علامة الحق أن لا يرجع عنه من يعرفه. وقد فقه هذا، هرقل، ملك الروم، فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شئون النبي صلّى الله عليه وسلّم أن قال له: «هل يرتد أحد من أتباع محمد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان:
لا. وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا: لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، واطلعوا على بواطنه وخوافيه، إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته، ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب» .
هذا، وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة روايات متعددة كلها تدور حول المعنى الذي قررناه.
ومن هذه الروايات ما أخرجه ابن جرير عن قتادة قال في قوله- تعالى- وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا.. ألخ قال بعض أهل الكتاب لبعض: «أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار، واكفروا آخره فإنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أنكم قد رأيتم ما تكرهونه في دينهم، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم» .
وعن السدى: كان- هؤلاء- أحبار قرى عربية، اثنى عشر حبرا، فقالوا لبعضهم:
ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: نشهد أن محمدا حق صادق. فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدثونا أن محمدا كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكون، يقولون:
هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم؟ فأخبر الله- عز وجل- رسوله صلّى الله عليه وسلّم بذلك» .
والمعنى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أى: فيما بينهم ليلبسوا على الضعفاء أمر دينهم آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ أى قال بعضهم لبعض: نافقوا وأظهروا التصديق بالإسلام وبنبيه- صلّى الله عليه وسلّم- وبما أنزل عليه وعلى أصحابه من قرآن وَجْهَ النَّهارِ أى في أول النهار.
وسمى أول النهار وجها، لأنه أول ما يواجهك منه، وأول وقت ظهوره ووضوحه.
وقوله وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ معطوف على آمِنُوا.
أى: آمنوا في أول النهار واكفروا في آخره، بأن تعودوا إلى اليهودية، أملا في أن ينخدع بحيلتكم هذه بعض المسلمين، فيشكوا في دينهم، ويعودوا إلى الكفر بعد دخولهم في الإسلام.
وقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ كشف عن مقصدهم الخبيث، وهو ابتغاؤهم رجوع بعض المؤمنين عن دينهم الحق إلى ما كانوا عليه من باطل.
قال الفخر الرازي: «والفائدة في إخبار الله- تعالى- عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه:
الأول: أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم، وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا.
الثاني: أنه- تعالى- لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف.
الثالث: أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس» .