ثم بين- سبحانه- أن خلق عيسى من غير أب ليس مستبعدا على الله- تعالى- فقد خلق آدم كذلك فقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
والمثل هنا: بمعنى الصفة والحال العجيبة الشأن، ومحل التمثيل كون كليهما قد خلق بدون أب، والشيء قد يشبه بالشيء متى اجتمعا ولو في وصف واحد.
والمعنى: إن شأن عيسى وحاله الغريبة عِنْدَ اللَّهِ أى في تقديره وحكمه كَمَثَلِ آدَمَ أى كصفته وحاله العجيبة في أن كليهما قد خلقه الله- تعالى- من غير أب، ويزيد آدم على عيسى أنه خلق بدون أم- أيضا-.
فالآية الكريمة ترد ردا منطقيا حكيما يهدم زعم كل من قال بألوهية المسيح أو اعتبره ابن الله.
وكأن الآية الكريمة تقول لمن ادعى ألوهية عيسى لأنه خلق من غير أب: أنه إذا كان وجود عيسى بدون أب يسوغ لكم أن تجعلوه إلها أو ابن إله فأولى بذلك ثم أولى آدم لأنه خلق من غير أب ولا أم. ومادام لم يدع أحد من الناس ألوهية آدم لهذا السبب فبطل حينئذ القول بألوهية عيسى لانهيار الأساس الذي قام عليه وهو خلقه من غير أب.
ولأنه إذا كان الله- تعالى- قادرا على أن يخلق إنسانا بدون أب ولا أم. فأولى ثم أولى أن يكون قادرا على خلق إنسان من غير أب فقط. ومن أم هي مريم التي تولاها- سبحانه- برعايته وصيانته لها من كل سوء وجعلها وعاء لهذا النبي الكريم عيسى- عليه السّلام-.
قال صاحب الكشاف: وقوله خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم- أى للأمر الذي لأجله كان ذلك التشبيه- أى خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم وكذلك حال عيسى. فإن قلت: كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب ووجد آدم من غير أب وأم؟
قلت: هو مثيله في أحد الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شبه به لأنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران. ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيم هو أغرب مما استغربه» .
وقوله ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ تصوير لخلق الله- تعالى- آدم من تراب أى أراد- سبحانه- أن يوجد آدم فصوره من طين ثم قال له حين صوره كن بشرا فصار بشرا كاملا روحا وجسدا كما أمر- سبحانه-.
فالجملة الكريمة تصور نفاذ قدرة الله، تصويرا بديعا يدل على أنه- سبحانه- لا يعجزه شيء في هذا الكون.
وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في «يكون» دون الماضي بأن يقول «فكان» لأن التعبير بالمضارع فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت، ومن وجهة أخرى فإن صيغة المضارع في هذا المقام تنبئ عما كان، وتومئ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله- تعالى- المستمر في المستقبل كما كان في الماضي.