ثم حكى- سبحانه- ما يقال لهؤلاء الكافرين يوم القيامة من جهته- تعالى- أو من جهة جوارحهم التي شهدت عليهم فقال- تعالى-: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ.
وقوله: تَسْتَتِرُونَ من الاستتار بمعنى الاستخفاء، «وما» نافية. وقوله: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ.. في موضع نصب على نزع الخافض أى: من أن يشهد عليكم.. أو مفعول لأجله.
أى: مخافة أو خشية أن يشهد عليكم سمعكم.
والمعنى: أن جوارحهم تقول لهم يوم القيامة على سبيل التبكيت: أنتم- أيها الكافرون- لم تكونوا في الدنيا تخفون أعمالكم السيئة، خوفا من أن نشهد عليكم ولكنكم كنتم تخفونها لاعتقادكم أن الله- تعالى- لا يعلم ما تخفونه من أعمالكم، ولكنه يعلم ما تظهرونه منها.
وما حملكم على هذا الاعتقاد الباطل إلا جهلكم بصفات الله- تعالى- وكفركم باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء، واستبعادكم أننا سنشهد عليكم.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ...
يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم، ويجوز أن يكون من قول الله- تعالى- لهم، أو الملائكة.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر، قرشيان وثقفى، - أى شخص من قبيلة ثقيف- أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم.
فقال أحدهم: أترون الله- تعالى- يسمع ما نقول: فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا.
فأنزل الله- عز وجل-: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ.
فالآية الكريمة تنعى على المشركين جهالاتهم الفاضحة، حيث ظنوا أن الله- تعالى- لا يعلم الكثير من أعمالهم، وتنبه المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يعلموا أن الله- تعالى- معهم، ولا يخفى عليه شيء من أقوالهم أو أفعالهم، وأنه- سبحانه- يعلم السر، وأخفى ورحم الله من قال:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت. ولكن قل: على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليك، يغيب